.

اليوم م الموافق ‏09/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

التشنيف ببيان مفاسد التصنيف

6183

الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد

قضايا المجتمع, قضايا دعوية

عبد الرحمن السديس إمام الحرم

مكة المكرمة

11/11/1430

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية مقصد الأخوة الإسلامية. 2- ظاهرة تصنيف الناس وداء التشكيك في الآخرين. 3- مسالك أهل التصنيف. 4- منهج أهل التجريح. 5- مفاسد هذه الظاهرة. 6- دوافع هذه الظاهرة وأسبابها. 7- السبيل لمواجهة هذه الظاهرة. 8- الآثار السلبية في انشغال الناس بهذه الظاهرة.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، ولتكُن تقوَى الله على الدّوام حافزًا لكم على الاجتماعِ والاعتصامِ ونَبذِ الفرقةِ والانقسام؛ امتثالاً لقولِ ربِّكم المولى العلاَّم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 102، 103].

وتقْـوَى اللهِ للأوَّاهِ زادٌ         فنِعْمَ الذُّخْرُ فِي الأُخْرَى مَآبَا

فلازِمْ دربَهَـا تظْفَر بخيرٍ        وحقِّقْ حكْمهَا تُحْرز ثَوَابـا

أيّها المسلمون، في مزدَحَم شؤون الحياة ومشاغِلها وفي دوّامة قضايا الأمّة ومتغيِّراتها يتناسى كثيرون بل ويتنكَّرون لمقصدٍ من أجلِّ مقاصِد شريعتِنا الغرَّاء، ذلكم هو مَقصد الأخوَّة الإسلاميّة والوحدَة الدينية؛ فيحِلّون محلَّ الاجتماعِ والائتلاف التفرّقَ والاختلاف؛ معرضين عن قولِ الحقِّ تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وقولِه سبحانه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]. يقول شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله: "الاعتصامُ بالجماعةِ والائتلافُ أصلٌ من أصولِ الدّين".

ويبرُز ذلك ـ يا رعاكم الله ـ في فُشوِّ ظواهرَ خطيرة لها آثارها البالغة في توسيع هوّة الخلاف في الأمة وتقطيع جسدِها الواحد إلى أوصال متناثِرة وأشلاءٍ متنافرة وتوزيعها أشتاتًا وعِزين.

ومِن أخطر هذه الظواهِر ضررًا وأشدِّها ضَراوة وأثَرًا ظاهِرةٌ عَجيبٌ نفوذُها كثيرٌ رَعاعُها غفيرٌ وَقودها، تلكم هي ظاهرةُ تصنيفِ الناس وداءُ التشكيكِ بالآخَرين وعدَم الثّقة بهم، وما تمثِّله معَ بلَج الإصباحِ من ضمائرَ سوداء يحمِلها فئامٌ ضَعُفَ إيمانُهم وقلَّ ورعُهم، فألقَوا جلبابَ الحياء، وشغَلوا الأمَّة عن كبير قضاياها، وألبَسوا الجميعَ أثوابَ القدح والجَرح، وتدثَّروا بشهوةِ الحكم على الناس ونَسج الأحاديث والحكايات والتعلُّق بخيوط الظنونِ والأوهام، في فوضى فكريّة عارمة، يركبون ثبَج التصنيف للآخرين للتّشهير والتّمثيل والتّضليل والصدِّ عن سواء السبيل؛ فغمَسوا ألسنتَهم في رُكامٍ من الآثام ثم بسَطوها بإِصدار الأحكام وإلصاقِ التّهَم والحطِّ من الأقدار في جُرأةٍ عجيبة وفي قاموسٍ لا ينتهي من التّصنيفات ينوء بحَمل أسفارِها جيادُ الإبل.

يجرِي ذلك في جانِبَي التصنيف الدّينيّ واللادينيّ، فكم نرَى ونسمَع عبرَ المجالسِ والمنتدياتِ وشَبكات المعلوماتِ بأنَّ هذا غالٍ متطرِّف، وذاك وهّابي، وآخر رجعيّ وصوليّ، وفي النيل من علماءِ الشريعة الذين يقرِّرون منهجَ السلفِ الصالح في السمعِ والطاعةِ لولاةِ أمرِ المسلمين: هذا مداهنٌ متزلِّف، وذاك مُراءٍ منافق، وثالث من علماءِ السلطان، وهكذا في سَيلٍ جارِفٍ من التّصنيفات الفكريّة والدعويّة والسلوكيّة التي تعدَّت الأفرادَ إلى المؤسَّسات والجهات والهيئات، من أجلها أقيمَت سوقُ الولاء والبراء والودّ والعداء؛ ممّا يحتِّم التوارُدَ على ميثاقِ شرفٍ أدبيٍّ يحمِي أعراضَ البرآءِ النّبلاء.

وإن نقَّبوا في البلادِ وفتَّشوا في العبادِ ولم يجِدوا للمَرءِ أيَّ زلَّةٍ تصيَّدُوا العثَراتِ وتتبَّعوا الهفواتِ المبنيَّةَ على شُبَهٍ واهيةٍ وألفاظٍ محتَمَلة، وحين تفلِس جهودُهم من كلّ هذا قالوا: مُتوانٍ محايِد، إلى غير ذلك من ضُروب تطاوُل سعاةِ الفُرقة ودعاةِ الفتنة، فإن لم يجِدوا لا هذا ولا ذاك أوغَلوا في الطّعن في النياتِ والمقاصِد، وإن تورَّعوا سلَكوا طريقَ الإشارةِ والهمز واللّمز والغَمز؛ مما يكون أكثرَ إيقاعًا وأشدَّ تطاولاً، وهذا وغيرُه من أعظم أمراضِ القلوبِ والمخادَعَة لعلاّم الغيوب، والله المتسعان.

معاشرَ المسلمين، ومن ألأَم المسالِك في هذه النزعةِ المأفونة نصبُ مشانق التجريح ووَضع رموزِ الأمّة وفضلائها على مِشرَحة النّقد الهدَّام بغيةَ تحطيمهم والإحباطِ بهم بما يلوِّث وجهَ كرامتهم؛ قاعِدين لهم مزجرَ الكلابِ النابحة في خواطرَ ممسوخةٍ وأوجُه صفيقة وأحكامٍ جائرة وأخلاقٍ سافِلة، تسلك بصاحبها مسالكَ أهلِ الأهواء على اختلافِ مللهم، فإن لهم شهوَةً جامحة للوقيعة في أهلِ الفضل في الأمة، وهكذا في سيلٍ متدفِّقٍ سيّالٍ على ألسنةٍ كالسياط الحداد، دأبها التبَصبُص وديدنُها التربُّص، فالتوثُّب على الأعراض والتلذُّذ بالاعتراض؛ مما يوسِّع جراحَ الأمة ويغتال الفضلَ بين أفرادها ويقطِّع أواصرَها؛ تأسيسًا على خيوطٍ من الأوهام ومنازلاتٍ بلا بُرهان، تجرّ إلى فتن لا يعلم عواقبَها إلا الله، وتضرِب الثقةَ في قِوام الأمنِ من خيارِ العباد، فبئس المستنقَع، وبئستِ البضاعة، والله حسبُنا وحسيبهم، ويا ويحهم يومَ تُبلى السرائر يوم القيامة!

إخوةَ الإيمان، وحتى ينطوِي عن الساحةِ الشقاقُ والشغب وما تجرّه هذه الظاهرةُ النشاز من تعبٍ من غير أرَب ولما تمثّله من خطورةٍ الورَم الخبيث في جسَد هذه الأمّة لما لها من أثرٍ سَلبيٍّ على أُخوَّتِنا الإسلاميّة ووحدتِنا الوطنيّة كان الواجِب تطهيرَ المجتمعِ المسلِم من هذه الرواسِب وإماطة اللّثام عن هذه الفتنة الدفينة لإطفاءِ جذوتها؛ لكي لا تعمَل عملَها في تفريقِ كلمةِ الأمّة، فيتخطّفها خصومها، ويبقى صوتُ الحقّ ضئيلا وحامِله ذليلا، وحتى تكونَ طوقَ نجاةٍ لمن أضناه مشوارُ التصنيف، فيُلقي عصا التّسيار قبل مفارقة هذه الدار، وسَلوةً لمظلومٍ مضرَّج برماحِ المصنِّفين وسِهام الجرّاحين.

إنها قرعٌ لجرَسِ النّذارة من هذه المكيدة الغلاّبة التي تصبّ في إيذاءِ المسلمين والنيلِ منهم مع نُبلِهم وبراءَتهم، والله عزّ وجلّ يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]، وحرصًا على جمع كلمةِ المسلمين التي أعلَنها المصطفَى عامَ حجَّة الوداع بقوله: ((إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام)) خرّجه الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه.

وإن تعجَب فعجبٌ حالُ من ابتُلوا بهذا الداء ممن دَأبهم التربُّص والترصُّد للتّحريش والتهويش وإشعالِ فتيلِ الفتنة في الأمّة والتشويش، وترَى هذا القبيلَ المأفونَ يجعَل شغلَه الشاغلَ مطاردةَ المبدِعين في الأمّة وجعْلَهم وقودَ بَلبلة وحطبَ اضطرابٍ وشِنشِنة، فحقًّا إنهم غُزاة الأعراض بالأمراض والعضِّ بالباطل في غوارِب العباد؛ فهم مقرَّنون بأصفاد الغلِّ والبغضاء والحِقد والحسدِ والشَّحناء والإفكِ والبهتان، فيا لله! كم لهذه الوظيفة الإبليسيّة من آثارٍ موجِعة على أعزِّ شيءٍ يملِكه المسلم في عقيدته وعرضه! حقًّا، لقد شوَّهوا التاريخَ وشوّهوا أنفسَهم، فلا هم قالوا خيرًا فغنِموا، ولا سكتوا فسلِموا.

فتبًّا لهذه المسالِك المرذولة، وأفٍّ لهذه المناهِج المأفونة، فإلى قائمَة الممقوتِين في سجلِّ التأريخ غيرَ مأسوف عليهم.

إنَّ الشَّقيَّ بالشقَـاءِ مولَعُ      لا يمْلكُ الردَّ لهُ إذا أتَى

فكم جرَّت هذه المكيدةُ من قارعةٍ على البلادِ والعباد؛ بتشويه وجه الحقّ والوقوف في سبيله، ثم هَضمٍ لحقوقِ المسلمين في دينِهم وأعراضِهم وتحجيمٍ لانتشارِ الخيرِ بينهم، حيث لم ولن يسلَمَ من لأوائهم أحَد، بل إنها صناعَة توابيت تُقبَر فيها المواهبُ والقُدُرات، وتوأَد فيها الكفاءات والإنجازات. نعوذ بالله من حالهم، ولا كثَّر اللهُ في الأمّة من أمثالهم.

يتَّضح ذلك بجلاءٍ أنه كلّما انبرى إمامٌ مصلِحٌ فذٌّ يتبنَّى مشروعاتٍ حضاريّةٍ في الأمّة تعيد لها أمجادَها في ظلّ ثوابت الشريعة ومقاصدِ الأمّة تجاذب سفينَتَها فهومٌ متضارِبة وآراء متجاذبة وحالاتُ لغطٍ لا تسلَم من الغلط، وعاشَت الأمّة جرَّاءَها مناسباتٍ ومزايَدات في ضروبٍ من الجدَل العقيم؛ مما يعيق عجَلةَ التنميَة في المجتمع ويعطِّل النماءَ والإعمارَ في الأمّة، مع التأكيدِ على التمسّك بثوابتِنا وضوابِطنا الشرعيّة، بل يُسلَّط هنا سيفُ التصنيفِ المصْلَت بأنّ من يبارِكها علمانيٌّ وآخرُ لبراليّ وثالث تغريبيّ، وهلمّ جرًّا، فسبحان ربي العظيم! سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيم! فحاشا أن يُظَنَّ بعامّة الأمّة فضلاً على خواصّها الإقرار بالمنكَرات وتمريرُ المخالفات؛ مما يخدش التمسّكَ بالعقيدة والمبادئِ والقيَم، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].

أمّةَ الإسلام، ومن وغوائِل هذه الظاهرةِ النزِقَة وعواملِ تهافُتها أنّك لو سألت حملةَ ألوِيَتها عن مستندِها والبيّنة التي اعتمدوا عليها كالشّمس في رابعةِ النهار لأفلَتوا أيدِيَهم وقلَّبُوا أكفَّهم، ولما وجدتَ في نهايةِ المطاف غيرَ بيّناتٍ واهياتٍ لا تعدُو وساوسَ غامِضة وانفِعالاتٍ متوترة وأحقادًا دفينة وتوظيفًا لسوءِ الظن، والظنّ أكذبُ الحديث.

إذَا سَاءَ فعْلُ المرءِ ساءتْ ظنُونُه وصدَّقَ مـا يعتاده مِنْ توُّهم

وبناءً على الزّعم، وبئسَ مطيّة الرجلِ (زَعموا)، وإعمالا لسوءَين شنيعَين هما: سوءُ القصد وسوءُ الفهم.

وكمْ منْ عائِبٍ قولاً صحيحًا    و آفتُهُ مِنَ الفهمِ السقيم

وإنْ ألقاكَ فهمُكَ في مَهَـاوٍ    فَليتَك ثمَّ ليتَك ما فهِمْتَ

فيا لله العجَب! كيف تُشادُ الأحكام العظام على مثل هذه الخيالات والأوهام؟! فضلا عمّا يكون من المستنداتِ من تتبّع العثرات وتصيُّد الهفوات، وهي مسالكُ مرديَة لو أُخِذ الناس بها لما بقِي في الأمّة أحد، ولَصارَ المجتمع كدودةِ القزّ تطوِي على نفسِها بنفسِها حتى تَلقَى حتفها، ومنها التناوشُ من مكان بعيد لتحميلِ الكلام ما لا يحتمِل، مع بذل الجهد للترصّد والتربُّص والفرح بالزَّلَّة، ومتى صار فرحُ الإنسان بخطَأ أخيه البيِّن من دين الله؟! فضلا عن اجتهادِه المشروع وتأويلِه السائغ. ألا إنَّ هذا المسلكَ المرذولَ داءٌ خبيث، متى ما تمكَّن من النفوس أطفَأ فيها جذوةَ الإيمان، وأخبَأ فيها عِفَّة اللسان، نعوذ بالله من الخذلان.

معاشرَ الأحبة، وإن تبحثوا ـ يا رعاكم الله ـ عن دوافعِ هذه الظاهرةِ الخطِرة فلن تعدوها توجُّهات وأنماطًا فكريّة وتراكماتٍ وتيّارات مخالفةً لمنهج سلف هذه الأمة أو تلبيسات إبليسيّة ونزغاتٍ شيطانية تهوي بصاحبها إلى درَكاتٍ سحيقةٍ من التخلُّف الفكريّ والانحطاط العقليّ والضّعف الإيماني، وكأنَّ الإمام ابنَ القيّم رحمه الله يصوِّر ما يجري في عصرنا حيث يقول: "وكم ترى من رجلٍ مُتورِّعٍ عن الفواحِش والظّلم ولسانه يفري في أعراضِ الأحياءِ والأموات لا يبالي ما يقول".

وعلى كلّ حال فيبقَى الحسدُ والهوى جناحَ هذه الشناعاتِ المغرِضة، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص: 50]، لكنّها بليةٌ لا لعا لها وفتنةٌ وقَى الله شرَّها، ولحا أربابها، يُحَذَّر الأغرار من الافتتانِ بها والاغتِرار؛ إذ بهذا التصنيفِ المريع آلَ أمر أبناءِ هذه الأمّة إلى أوزاعٍ وأشتاتٍ وأحزاب وركضٍ وراء السراب، فلو رأيتَهم يُرثَى لحالهم وهم يتسارعون، والله أعلَم بما يوعُون، وقد يكونون رأسَ المِعولٍ لهدمِ وحدة الأمّة وهم لا يشعرون.

أمّةَ الإسلام، وبعدَ بيانِ خطورةِ هذه الظاهرةِ وآثارِها ودوافعِها يأتي السؤال الملحّ: ما السبيلُ لمواجهتِها وتخفيفِ غلوائها في الأمّة؟ والعملُ لهذا العلاج يرجِع إلى ثلاثِ فئاتٍ في الأمة:

أولها: محترفو التصنيفِ أنفسُهم بالحذَر من سلوك جادّةٍ يمسّهم منها عذابُ الله، فلا يغِب عن بالكم ـ يا هؤلاء ـ أنَّ المسلمَ من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكيف يعزبُ عن أذهانكم ـ يا أولئك ـ حديثُ أبي هريرة في الصحيح: ((أتدرون من المفلس؟!))، وأثرُ عمر الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله: (لا يعجبنَّكم طنْطَنة الرجل، ولكن من أدَّى الأمانةَ وكفَّ عن أعراضِ الناسِ فهُو الرجل)؟!.

لا تُرْسِلَنَّ مقُولةً مشهورةً       لا تسْتطيعُ إذَا مضَتْ إدْراكَهَا

لا تبدِيَـنَّ بَهيتَة نُبِّئتَهـا       وتحفَّظَنَّ من الـذي أنباكهـا

فإلى محترفي التصنيف ومسوِّقيه، لتعلَموا ـ هُدِيتُمْ إلى الرّشَاد ـ أنكم بهذه المشاقّة قد خرَقتم حرمةَ الاعتقادِ الواجبِ في أخوّة الديانة، ولسوفَ يحصِد الزوبعة مَنْ حرَّك الريح، فالزَموا ـ عافاكم الله ـ تقوى الله ومراقبتَه والإنابةَ إليه واستغفاره، واحذَروا صناعةَ المفاليس هذه.

لعَمْرِي لقدْ نبَّهْتُ مَنْ كـان نائِمًا       وأسْمَعْتُ مَنْ كانَتْ لهُ أُذُنَـان

أمّا مَنْ يعاني أزمةً في الضميرِ ولوثةً في الفِكر وقد تَمَكَّن منه الداءُ فنعوذ بالله من الشّقاء، ولا يأْسَ مِن رحمة أرحمِ الرّحماء.

أما من رُمِيَ بالتنصيف زورًا وبهتانا فله البُشْرى والسلوَى في مثل قول المولى جلّ وعلا: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ [فصلت: 43].

ومَا أَحَدُّ مِن ألْسُنِ النَّاسِ سَالِمًا ولَوْ كانَ ذاكَ التَّقيَّ المهَذَّبَـا

فاستمسِك بما أنت عليه من الحق المبين، وقد ذكر الحافظ بن عبد البر رحمه الله أنه كان يُقال: "يُستَدلُّ على نباهة الرجل بتبايُن الناس فيه، وهذه صفة أهل النباهة ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والنهاية" انتهى كلامه رحمه الله.

فلا تبتئِس بما كانوا يفعلون، ولا تبتئس بما كانوا يعمَلون، ولا يثنِكَ هذا الإرجافُ عن موقفِك الحق؛ فالثباتَ الثباتَ متوكِّلاً على مولاك، والله يتولى الصالحين، وليكُن في سيرتِك وسريرتِك من النقاءِ والصفاءِ والرحمةِ بالخلقِ ما يحمِلك على استيعابِ الآخرين وإن خالَفوك، وكظم الغيظ والإعراضِ عن أعراضِ الوالغين، ولا تشغَل نفسَك بذِكرهم، فهذا غاية نُبل النفس وصفاء المعدن وحسنِ الشمائل، وأنت بهذا كأنما تُسِفُّ القوم الملّ، والأمورُ مرهونةٌ بحقائقها.

أمّةَ الإسلام، ولعلَّ أبرزَ الآثار السلبيّة في انشغالِ فئامٍ من الأمّة بهذه الظواهرِ والمظاهرِ الخطيرةِ ما آل إليه الأمرُ في تردِّي واقعِ الأمّة حين شُغِلتْ عن كبرى قضاياها، وما آل إليه أمرُ مقدَّساتها حين توارَت في بحارِ الفِتن أشرعتُها، وتاهت في سوادِ المحن راياتها، وتهاوَى من يدي صهيون أحقادُها، ولعلّ ما يعانيه المسجد الأقصى المباركُ هذه الأيامَ من محنةٍ كبرى من أجلَى الشواهدِ على ذلك؛ مما يتطلَّب من المجتمعاتِ الدوليّة والهيئات العالميّة والأمّة الإسلاميّة تحمُّل مسؤولياتها الشرعيّة والتأريخيّة والإنسانيّة في الدفاع عن الأقصَى وصدِّ محاولاتِ تهويدِه وتدنيسه، فلتسلَم قدسُنا، وليبشر المقدسيّون بل والمسلمون كافّة بقربِ الفرَج وبريق النّصر و انبلاج الفجر بإذن الله.

فَاسْلَمِي يَا قدسُ إنَّا لِلْفِدَا       ذي يدي إنْ مدَّتِ الدُّنْيَا يَدَا

أَبَدًا لـنْ تَسْتَكِيني أبَـدَا      إنَّني أَرْجُوْ مَـعَ اليَوْمِ غَـدَا

وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4، 5].

نفعني الله وإياكم بهدْي كتابه وبسنّة رسولِه ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ خطيئةٍ وإثم، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا، وتوبُوا إليه إنه كان توّابًا.

 

الخطبة الثانية

حمدًا لك اللّهمّ حمدًا حمدًا، نشهد أن لا إلهَ إلاَّ أنت قُلتَ في محكمِ التنزيل وأصدَقِ القيل: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]، ونشهَد أنَّ سيِّدنا محمَّدًا عبدك ورسولك وخليلُك ومصطفاك وحبيبُك ومجتباك، صلّى عليه الله ما ليلٌ سجَى وما صبحٌ بدَا، وسلِّم تسليمًا سرمدًا أبدًا، وبارَكَ تبريكًا مزيدًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].

أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، لا يخفَى على شريفِ عِلمكم أنَّ مِن الأصول الشرعيّة تحريمَ النيل من أعراض المسلمين، فالأصلُ بناءُ حال المسلِم على السلامَة والسِّتر وحسنِ الظنّ، واليقينُ لا يزول بالشكّ، وإنما يُزال بيقينٍ مثله، والأصل براءةُ الذمة، وكم من خبرٍ لا يصحّ أصلاً، وكم من خبرٍ لو صحَّ لكن يرِد عليه من الإضافات واللّوازم الباطلة أو التجزِئة والانتقائية بما يحرف به الكلم عن مواضعه. وبالجملة فلا تُقرَّر المؤاخذة إلا بعد أن تأذَن الحجّة ويقومَ عندك قائمُ الدليل والبرهان كقائِم الظهيرة، ومن تجاوزَ ذلك بغير حقٍّ متيقَّن فهو المفتون الخارقُ لحرمَة الشريعة. والمسلمُ الحقّ لا يكون معبَرًا تمرَّر عليه الوارداتُ والمختلقات، ولا يُطيّر الأخبار كلَّ مطار بلا تثبُّت ولا رويّة، ثم ينشر بلسانه بلا وعيٍ ولا تعقّل.

إنَّ البدارَ بردِّ شيء لم تحِط      علمًا به سببٌ إلى الحرمان

فاللهَ اللهَ في التزام الإنصاف والعَدل حتى مع المخالِف واحترامِ اجتهادِه وتقدير آرائه.

ولمْ تزَلْ قِلّةُ الإنْصَافِ قَاطِعةً    بيْن الرِّجال وإنْ كَانُوا ذوِي رحِمِ

والحذرَ الحذرَ من الفتَّانين المتجنِّين على أعراضِ المسلمين ممن سيمَاهم توظيفُ النصوص في غير مجالها، فإذا رأيتَهم فارثِ لحالهم وادعُ لهم بالعافية، ولا تكن عونًا للشيطان عليهم، فإنّ ذلك السُّمُّ الناقع، وتسلَّح بالدعاء أن يُقِيل الله العثرةَ ويغفِر الزلَّة.

لكن مما يُطمئِن بحمد الله أنّ هذه الوعكةَ اليسيرة مصيرها بإذن الله إلى الزوالِ والاضمحلال، لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله، وهذه اللّوثةُ الطارِئة تنطفِئ عن قريبٍ بحول الله بالفَيئةِ إلى جماعةِ المسلِمين والاعتزازِ بأخوَّتهم وصفاءِ القلوبِ لهم، كيف وقد افتَرَعوا من لأْلاء التّصافي هِضابًا، ونهلوا من رَحيقِ الودّ شهدًا ورِضابًا؟! وتلكم هي عظمَة الأخوّة العتيدَة وحقيقتُها الألقِة الفريدة، ممتثلين المنهج القرآني: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].

ألا وإنَّ من التحدُّث بنعَم الله ما مَنَّ الله به على بلادِ الحرمين الشريفَين حرسَها الله من دَعوةٍ إصلاحيةٍ رائدة وجماعةٍ شرعيّةٍ واحدةٍ على نَهج الكتاب والسنة منذ تعاهد الإمامان وتعاقَد المحمَّدان رحمهما الله، إلى عهد الإمام المؤسِّس والملك الموحِّد طيَّب الله ثراه، في ظلٍّ وارف من راية الاجتماع والتأليف ومنأًى عن غائلة الفرقة والتصنيف بحمد الله ومنِّه. زادها الله وحدةً وتماسُكًا ورخاء، وحفِظ عليها عقيدَتها وقيادتها وأمنَها واستقرارَها، إنه جواد كريم.

هذا، وصلُّوْا وسلِّمُوا ـ رحمكم الله ـ على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد بن عبد الله كما أمرَكم بذلك ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

إن شئت مـن بعدِ الضلالة تهتدي       صلِّ على الْهادي البشيرِ محمّد

يـا فوزَ من صلـى عليـه فإنـه       يحوي الأمانيَ بالنّعيم السرمدِي

اللّهمّ صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك نبيّنا محمدٍ، وعلى آله وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آله وأزواجه وذريته، كما باركتَ على آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وارضَ اللّهمّ عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء ذوي القَدر العليِّ والشرَف الجليِّ: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورَين وعليّ أبي السبطين، وعلى سائر الآل والأصحاب، ومن سار على نهجهم واقتفى يا خير من تجاوَز وعفا.

اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً