أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن تقوى الله تُفرج الكربات، وتستجلب البركات، وتستنصر رب البريات، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.
معاشر المؤمنين، يتساءل بعض الصالحين عن أسباب غفلة الناس وتنكب بعضهم عن صراط الله المستقيم، وانحرافهم عن سبيل المؤمنين المتقين، وتباطئهم عن العمل الصالح وأعمال المحسنين، وعن الآخرين الذين وضعوا لصلاح أحوالهم حدا لا يتجاوزونه، ولاستقامتهم سياجا لا يتعدونه، فإذا ما نصح أحدهم لمزيد من الطاعات والاستقامة على فعل الصالحات، أو أرشد لنصرة الدين ومؤازرة المصلحين؛ ردّ باكتفائه بما هو عليه وقناعته بما هداه الله إليه، فكيف تتحسن أحوال هؤلاء وتصطلح أوضاع أولئك؟ أقول وبالله التوفيق:
إن من أقوى الدوافع لهؤلاء جميعا ـ ونحن معهم ـ للارتقاء بأحوالنا والقرب أكثر من ربنا هو استحضار مشهد من مشاهد يوم القيامة، انخلعت لهوله قلوب الصالحين، وارتجفت لعظيم خطره أفئدة المتقين، الذين أيقنوا بحدوثه فعايشوه وتذكروه.
إنه موقف خطير ومهول عباد الله، من هوله أن لا يعرف فيه أحد أحدا، ودعاء الأنبياء فيه: ((اللهم سلم سلم)). انه اجتياز الصراط، حين يؤمر بك ـ يا عبد الله ـ لكي تعبره، وهو جسر حادّ وزلق، أحدّ من السيف، وقد ضربت الظلمة على الموقف كما في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله، أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار؟ فقال المصطفى : ((يا عائشة، هم فى الظلمة دون الجسر))، وفى لفظ مسلم: ((هم على الصراط))، وهو الجسر المضروب على متن جهنم، لا يتوصل إلى الجنة إلا بعد اجتيازه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ويضرب جسر جهنم))، فقال رسول الله: ((فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو)) رواه البخاري
تخيل نفسك ـ يا عبد الله ـ وأنت تضع قدميك على الصراط، وتحتك نار جهنم تتلظى وتزفر، ويطلب منك أن تعبره، لن ينفع المرء آنذاك حسبه ولا نسبه، ولن ينجيه سلطانه ولا ماله، ولن تسرعه قبيلته ولا جاهه، بل جواز عبورِه التقوَى، فهي طوق النجاة منه وسبيل العبور عليه، ففي الصحيح قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة))، فقالت حفصة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا؟! قال: ((ألم تسمعيه قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)).
معاشر المؤمنين، وفي هذه الظلمة الحالكة تقسم الأنوار على العباد بحسب أعمالهم ليروا الطريق أمامهم، وتدبر معي هذه الآيات التي تصور هذا الموقف العظيم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8].
ويتقدم المنافقون من الصراط فيسلب الله نورهم، لأنه نور مزيف في الدنيا؛ كانوا يتظاهرون به أمام الناس، أما في الآخرة فتظهر الأمور على حقيقتها، فإذا رأى أهل الإيمان نور المنافقين قد أطفئ على الصراط وجلوا وأشفقوا فدعوا الله تعالى: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8]. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة، ويطفأ مرة، إذا أضاء قدّم قدمه، وإذا أطفأ قام))، إلى أن قال: ((فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمرّ الذي نوره على إبهام قدمه، تخرّ يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار)) أخرجه الحاكم في المستدرك.
نسأل الله السلامة في الدين، وصدق الإيمان واليقين، ونجاة المتقين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
|