أما بعد: فيا عباد الله، إن من أعظم الروابط بين الناس رابطة خصها الشرع الحنيف بمزيد من الاهتمام والذكر، وعلق عليها جزيل العطاء والأجر، جعلها المولى سبحانه من فرائض الدين الكبرى، أمر بوصلها والإحسان إليها حتى في أحلك الظروف، وحذر من المساس بها والاعتداء عليها ولو بأدنى الألفاظ.
إنها ـ يا عباد الله ـ رابطة الوالدين، تلك الرابطة التي تذكر كل واحد بأصله الذي كان سببًا في وجوده.
إن حديثنا عن الوالدين اليوم حديث حنان وذكرى، وحديث شوق وعبرة، إنه عن الوالدين أعظم وأعز إنسانين في هذا الوجود.
إننا ـ عباد الله ـ في زمن عظمت غربته، واشتدت كربته، لم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم ترحم البنات شفقة الأمهات، هذا الزمان الذي قل فيه البر، وازداد فيه العقوق والشر، كم نحن بحاجة إلى التذكير بحق الوالدين وعظم الأجر لمن برهما وكبير الإثم لمن عقّهما.
أيها المسلمون، لقد أكثر الله سبحانه في كتابه من ذكر شأن الوالدين وأوجب الإحسان إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما، قرن المولى سبحانه حقهما بحقه، وجعل شكرهما من شكره، فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وقال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات مقرونات بثلاث، لا تقبل واحدة بغير قرينتها: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه، فرضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين).
عباد الله، بر الوالدين من خير ما تقرّب به المتقربون وتسابق فيه المتسابقون، وهو من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ وفي رواية: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم. فها هو المصطفى قدم حقّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، فقال : ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم بل كلاهما، فقال : ((أتبتغي الأجر من الله؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما)) أخرجه الشيخان.
أيها المسلمون، إن حق الوالدين باق ومصاحبتهما بالمعروف واجبة حتى وإن كانا كافرين، عن أسماء رضي الله عنها قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
ولم يقف حق الوالدين عند هذا الحد، بل يجب برهما والإحسان إليهما حتى ولو أمرا بالكفر بالله وألزما الشرك به، قال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
يا قوم، إذا أمر الله تعالى بمصاحبة الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران به ولدهما وهو الإشراك به سبحانه فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين؟! تالله، إن حقهما لمن أشد الحقوق وأكبرها، وإن القيام به على وجهه من أصعب الأمور وأعظمها، فالموفق من هدي إليها، والمحروم كل الحرمان من صرف عنها.
عباد الله، لما كان بر الوالدين من القربات العظيمة تسابق إليها الأتقياء من الرسل والأنبياء، فهذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وكذلك ما أخبر الله تعالى عن حال عيسى ابن مريم عليه السلام في شأن بره بأمه: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وكذا يحيى عليه السلام في قوله تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا. وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام الذي بلغ في البر غايته وفي الرأفة والشفقة أوجها: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا. ولما هدده أبوه: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قابل التهديد بالإحسان والغلظة بالآداب والاحترام فقال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا.
عباد الله، الوالدان يتطلعان إلى الإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف والحنان، والبعض منى تناسى ضعفه وطفولته وأعجب بشبابه وفتوته غره تعلميه وثقافته، وترفع وتكبر بجاهه ومرتبته.
يا هذا، حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر وهنا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرها، لا يزيدها حملك إلا ثقلا وضعفا، عند الوضع رأت الموت بعينيها، ولما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت كل آلامها، وعلقت فيك آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، وهي بك رحيمة وعليك شفيقة، إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها، فماذا قدمت لها؟! وهل ما تصنعه يكافئ جميلها؟!
لأمـك حـق لـو علمت كبيـر عظيمك يـا هـذا لديه يسير
فكم ليلة بـاتت بثقلك تشتكـي لها مـن جواهـا أنـة وزفير
وفِي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكـم غسلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شرب لديـك نمير
أما الأب ـ يا عباد الله ـ فهو الوالد الحاني والمربي الغالي، يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار ويجوب القفار ويتحمل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش لك ومستقبل الخير من أجلك، ينفق عليك، يصلحك ويربيك، إذا دخلت عليه هش، وإذا أقبلت إليه بش، وإذا غبت سأل عنك، وإذا تأخرت انتظرك، ينشئ وينفق، ويربي ويشفق، إذا رآك ابتسم محياه، وإذا أسعدته برقت ثناياه، فجزاه الله من والد كريم وأب رحيم.
غذوتـك مولودا و علتك يافعـا تعل بِما أجبي إليـك وتنهـل
وإذا ليلـة نابتك بالشكو لَم أبت لشكواك إلا سـاهرا أتملمـل
كأني أنا الْمطروق دونـك بالذي طرقت بـه دوني فعيني تهمـل
فلمـا بلغت السن والغـاية التِّي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائـي غلظة و فظـاظة كأنك أنـت المنعم المتفضـل
فليتـك إذ لم تـرع حـق أبوتِي فعلت كمـا الجار المجاور يفعل
عباد الله، إن بر الوالدين ليس مقصورا على الحياة فقط، فإن من تمام البر وكماله أن يبر الولد والديه حتى بعد موتها.
فيا من مات والده أو أحدهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط تجاههما، اعلم أن باب الإحسان مفتوح، فتدارك العمر قبل فوات الروح، عليك بالدعاء لهما والصدقة عنهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما ينتفع به الوالدان بعد موتهما، أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن أبي أسيد بن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاء رجل من بني سلمه فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال : ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما))، ومما يروى عن النبي أنه قال: ((إن العبد ليموت والده أو أحدهما، وإنه لهما لعاقّ، فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارًا))، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير! فقال عبد الله بن عمر: والد هذا كان ودًا لعمر، وإن من البر أن يبر الرجل ود أبيه.
أخي، إن والديك هناك في قبرهما يتشوقان إلى دعوة صالحة من ولد صالح في جوف الليل، وإنهما يتطلعان إلى صدقة جارية من كسب طيب تدفع عنهما البلاء ويرضى عنهما رب الأرض والسماء.
عباد الله، لقد فقه السلف الصالح رحمهم الله قدر بر الوالدين وعظيم مكانته، فضربوا في ذلك أروع الأمثلة وأجملها: هذا زين العابدين بن علي بن الحسين رحمه الله قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. ولما ماتت أم أياس بن معاوية رحمه الله بكى بكاء شديدًا، فقيل له فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأغلق أحدهما، وحقّ لعين بكاؤهما.
يا قوم تشبهوا إن لَم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكـرام فـلاح
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما الآيات والحكمة...
|