.

اليوم م الموافق ‏09/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

العرمرم في فضل ماء زمزم

6132

الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة

فضائل الأزمنة والأمكنة, مخلوقات الله

بلال بن عبد الصابر قديري

جدة

جامع الغبيشي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- نعمة الماء. 2- بداية ماء زمزم. 3- أسماء زمزم. 4- فضل زمزم وبركته.

الخطبة الأولى

أما بعد: فعلى المسلمين جميعًا أن يتقوا الله تعالى, وليخشوه وليراقبوه, فإنه سبحانه مطلع عليهم, لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، اتقوا الله حق التقوى, فتقوى الله سلوان لكل هم, وفرج من كل غم, ومخرج من كل ضيق, وأوثق العرى كلمة التقوى.

أيها المسلمون، إنه سر الحياة, أنعم الله به على خلقه, منه خِلْقَتُهم, وعليه قيام حياتهم وقَسْم أرزاقهم, ينزل من السماء, ويخرج من الأرض, ويتشقق به الجبال, وتتصدع منه الحجارة, به حياة الروح والبدن, ذلكم هو هذا السائل المبارك الطهور, إنه الماء, واقرؤوا إن شئتم في كتاب الله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور: 45].

الماء من أعظم ما امتنّ الله به على عباده, أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]. إنه ماء الحياة لكل الأحياء, بقدرة الله تروون به عطشكم, وتطهرون به أجسادكم, وتصنعون طعامكم, وتغسلون متاعكم, ماءٌ مباركٌ طَهُور, يسقي الحرث, وينبت الزرع, ويدر الضرع, ويشرب منه الأنعام وأناسيُّ كثير, لا سبيل للوصول إليه إلا بمنة الله وكرمه, قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30].

إن خفّ كان سحابًا, وإن ثقل كان غيثًا ثجّاجًا, وإن سخن كان بخارًا, وإن برد كان ندى وثلجًا وبردًا, تجري به الجداول والأنهار, وتتفجر منه العيون والآبار, وتختزنه تجاويف الأرض والبحار, ومع هذا كله فإن حديثنا اليوم عن نوع ماء لا كالمياه كلها, إنه سيد المياه وأشرفها, وأجلها وأغلاها, هو هزمه جبريل, وسقيا الله إسماعيل, إنه من الآيات البينات في حرم الله الآمن, ومن أعظم المنافع المشهودة فيه, إنه الماء المبارك, ظهر في أطهر بقعة مباركة, إنه ماء زمزم، ولزمزم بداية فلنبدأ بها.

فيوم أن جاء إبراهيم الخليل بزوجه هاجر وابنها إسماعيل, وتركهما فوق دوحة عند البيت, وليس بمكة يومئذ حياة ولا ماء ولا نبات, فلما اشتد الكرب على هاجر وابنُها يتلوَّى كأنه ينشغ للموت سعت بين الصفا والمروة سعي الإنسان المجهود, فسمعت صوتًا فإذا هي بجبرائيل, فضرب برجله الأرض فنبع الماء, فجعلت تحوضه قال رسول الله : ((رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكان عينًا معينًا)) رواه البخاري, أي: لكان الماء ظاهرًا.

ولم يزل زمزم نهلاً عذبًا للواردين حتى وليت جُرْهُم أمر البيت, وطالت ولايتهم فاستخفّوا بحرمة البيت, واستحلُّوا الحرم, وظلموا من يدخل إليه, فسلط الله عليهم خزاعة, فأخرجتهم من الحرم, فلم ينفلت منهم إلا الشَّرِيد, ودفنت جرهم بئر زمزم لما نفيت من مكة, فلم تزل زمزم عافية دارسةً آثارها حتى آن مولد النبي المبارك الذي تفجر من بنانه ينابيع الماء, وهو صاحب الكوثر والحوض الروَّاء, فلما آن ظهوره أذن الله لسقيا أبيه أن تظهر, ولِمَا دُفن من مائها أن تجتهر, فرفعت عن زمزم الحجب, برؤيا منام رآها عبد المطلب, فأُمر بحفرها, وعُلِّمت له بعلامات استبانَ بها موضع زمزم فحفرها, فلم تزل إلى يومكم هذا منهلاً عذبًا وموردًا صافيًا, وسيبقى كذلك لا يفنى على كثرة الاستقاء, فإنها لا تنزف ولا تُزَمّ, بل تبقى عند بيت الله المعظَّم, تسقي الحجيج الأعظم, وفي بعض الآثار أن المياه العذبة على وجه الأرض تغور وتنضب وتذهب قبل يوم القيامة غير ماء زمزم.

عباد الله، ولما كان زمزم خير ماء على وجه الأرض خص بأسماءٍ كثيرة, وكثرة الأوصاف والأسماء دليل على عِظَمِ شأن المسمى, يدل على ذلك قول الشاعر:

واعلم بأن كثرة الأسامي        دلالة أن المسمّى سامـي

وقد ذكر الزبيدي في تاج العروس من جواهر القاموس أنه جمع أسماءها فجاءت على ما ينيف على ستين اسمًا, مما استخرجها من كتب الحديث واللغة، ونظم الأديب البرهان القيراطي رحمه الله جملة من أسماء زمزم فقال:

لزمزم أسماءٌ منهـا زمزم        طعامُ طعمٍ و شفاءُ من يَسْقَمُ

سقيا نبِي اللَّه إسماعيـلا        مرويـةٌ هزمـة جبْرائيـلا

مُغَذِّيَةٌ عـافيةٌ وكـافية        سالِمة و عِصْمَـةٌ وصـافية

سيدةٌ وعونةٌ قد دُعِيَـت       شبَّاعَةُ العيال قِدمًا سُمِّيَـت

وذكر أصحاب السير من جملة أسماء سيدنا رسول الله عدة أسماء تعود نسبتها إلى زمزم, فهو النبي الزمزمي والمزمزم, فقد غُسِل قلبه الشريف أربع مرات بماء زمزم كما في السير, فكان قلبه صلوات الله وسلامه عليه خير القلوب وأزكها وأتقاها وأنقاها.

أيها الناس، قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران: 96]، قال علماء التفسير: ومن الآيات البينات فيه الحجر الأسود والحطيم وانفجار ماء زمزم بعقب جبريل عليه السلام, وأن شربه شفاء للأسقام وغذاء للأجسام, بحيث يغني عن الماء والطعام، وأيضًا فزمزم أولى الثمرات التي أعطاها الله إبراهيم الخليل حين دعا بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 126]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم, فيه طعام الطعم وشفاء السقم)) رواه الطبراني وابن حبان، كيف لا يكون خير ماء وقد نبع في مقرٍ مبارك لسيد مبارك بواسطة فعل أمينٍ مبارك؟!

وازداد زمزم بركة على بركته ولذة على لذته وشفاءً على شفائه حين جيءَ إلى النبي بدلو من زمزم فشرب منه وتمضمض ثم مَجَّ في الدلو وأمر فأهريق في زمزم. رواه الطبراني وإسناده على شرط مسلم. والمجُّ هو إرسال الماء من الفم مع النفخ.

وخذ مثالاً ـ يا رعاك الله ـ على قوله : ((زمزم فإنه طعام الطعم))، ففي صحيح مسلم في قصة إسلام أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه أنه لما قدم مكة يستعلم عن الإسلام بقي النبي في الحرم بعد هزيع من الليل، قال: فكنت أنا أول من حيَّاهُ بتحية الإسلام، فقال: ((وعليك ورحمة من الله، ممن أنت؟)) فقلت: من غفار، قال: ((متى كنت ها هنا؟)) قال: كنت هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم, قال: ((فمن كان يطعمك؟)) قال: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني انطوى وتثنى لحم البطن سمنًا، وما أجد على كبدي سخفة جوع: حرقة الجوع وهزاله، قال : ((إنها مباركة، إنها طعام طعم)) أي: إنها تغني طاعمها عن الطعام, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كنا نسميها شبَّاعةً, نعم العون على العيال).

قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: "وشاهدت من يتغذّى به الأيام ذوات العدد, قريبًا من نصف الشهر أو أكثر لا يجد جوعًا، ويطوف مع الناس كأحدهم, وأخبرني أنه ربما يبقى أربعين يومًا وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مرارًا".

ولا غرو يا عباد الله، فالنبأ من فم الصادق المصدوق , وفي زماننا أناس شربوا زمزم بنية الشبع فحصل لهم ما أرادوا, لكن الأمر يحتاج إلى قوة إيمان وصدق التجاء إلى الله والإخلاص له.

وأما قوله عن زمزم: ((شفاء سقم)) فيشمل بعمومه الأسقام الحسيَّة والمعنويَّة, وفي نفس المعنى قول النبي : ((ماء زمزم لما شرب له)) رواه ابن ماجه وأحمد والبيهقي وهو حديث حسن, وزاد الحاكم مرفوعًا من حديث ابن عباس: ((ماء زمزم لما شرب له, إن شربته لتستشفي به شفاك الله, وإن شربته ليشبعك أشبعك الله, وإن شربته لقطع ظمأك قطعه الله)). ولعلم عبد الله بن عباس بهذا الأمر كان إذا شرب من زمزم قال: (اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاءً من كل داء).

وتواترت الأنباء والأخبار عن أولئك الذين تداووا بزمزم من شتى الأمراض بأنواعها, فكانت زمزم علاجًا ناجعًا, كمن شربه لعمى به فأبصر, أو لفالج فعوفي, أو لعقدة في لسانه فانحلَّت, وفي زمانكم تداوى به ناس من السرطان فشفوا. وأخبار المستشفين بماء زمزم أكثر من أن تحصى, ولو أنها سُرِدت لطال المقام, قال الإمام زكريا القزويني: "وماء زمزم صالح لجميع الأمراض المتفاوتة, قالوا: لو جمع جميع من داواه الأطباء لا يكون شطرًا ممن عافاه الله بشرب ماء زمزم". ومما يستشهد به على هذا ما رواه البخاري في تاريخه عن عائشة رضي الله عنها أنها حملت زمزم في القوارير وقالت: حمله رسول الله في الأداوي والقرب, فكان يصبّ على المرضى ويسقيهم.

ولا يعجلن سامع هذه الأخبار فيحكم باستبعادها وإنكارها، وليقوِّ إيمانه بالله, فهذا الاستشفاء موجود وحاصل إلى يوم القيامة لمن صلحت نيته وسلمت طريقته, ولم يكن به مكذبًا ولم يشربه مجرّبًا, فإن الله مع المتوكلين, وهو يفضح المجرّبين. ويختصّ زمزم في أنه نافع للحمى خافض لحرارته دافع لشدته, فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((الحمّى من فيح جهنم، فأبردوها بماء زمزم)) رواه البخاري واللفظ لأحمد.

أيها المؤمنون، ولزمزم مزيةٌ أخرى تنفرد بها عن كل ما تعلمون وتدركون من المزايا, ففي حديث جابر رضي الله أن رسول الله يقول: ((ماء زمزم لما شرب له)) رواه ابن ماجه وأحمد وصححه الألباني. والمعنى ـ عباد الله ـ أن زمزم ينفع لما شرب له؛ لأنه سقيا الله وغياثه لولد خليله, فبقي غياثًا لمن بعده, فمن شربه بإخلاص وجَدَ الغوث, وهذا جار للعباد على قدر صدقهم وإخلاصهم, وقوله : ((لما شرب له)) من صيغ العموم، فتَعُمُّ أيَّ حاجةٍ دنيوية أو أخروية, فلتستحضر في قلبك عند شربك ماء زمزم نيةً صالحةً من خيري الدنيا والآخرة، وقد شرِبه ثلةٌ من العلماء والعبَّاد لأجل نياتٍ صالحة فتحققت لهم, فلقد شربه أبو حنيفة رحمه الله للعلم والفقاهة فكان كذلك, وناهيك به علمًا وصلاحًا وفضلاً, ووقف عبد الله بن المبارك بعد أن شرب زمزم واستقبل القبلة وقال: اللهم إنّ ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له))، وها أنا ذا أشربه لعطش يوم القيامة, ثم شربه. واشتهر عن الشافعي أنه شرب ماء زمزم للرَّمْي, فكان يصيب من كل عشرة تسعة, وشربه للعلم, فهو من العلم بمكان, وللجنة فيرجى له ما طلب. وكان والد الإمام المقرئ محمد بن محمد بن محمد الجزري تاجرًا ومكث أربعين سنة لم يرزق ولدًا, فحج وشرب ماء زمزم بنية أن يرزقه الله ولدًا عالمًا, فوُلِد له محمد في رمضان المقبل بعد التراويح.

فزمزم من الطبّ النبوي, واعلموا أن طب النبي متيقن البرء لصدوره عن الوحي, وقد يتخلف الشفاء عند البعض لمانع قام بمستعمله؛ من نحو ضعف اعتقاد الشفاء به ونحوه من الموانع.

وآية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم، فالتضلع منه علامة إيمان وبراءة من النفاق, وقد تعاين أناسًا يفضلون على زمزم ما يسمونه مياهًا صحيَّةً, فليحذر هؤلاء الذين حرموا أنفسهم خيرًا كثيرًا, وليراجعوا إيمانهم بما صحّ وثبت عن النبي في شأن زمزم وفضلها، وقد عانى من أمثال هؤلاء المفسّر ابن علان الدمشقي فقال:

وزمزم قالوا: فيه بعض ملوحة  ومنه مياه العين أحلى وأملح

فقلت لهم: قلبِي يراها مَلاَحةً   فلا برحت تحلو لقلبي وتملُح

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة, ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر, والصلاة والسلام على سيد البشر, الشافع المشفَّّع في المحشر, وعلى آله وصحابته السادة الغرر, وعلى من سار على نهجهم واقتفى الأثر.

أما بعد: فزمزم شراب الأبرار, وهو أفضل التحف والقِرَى, ولا بأس من حمله إلى الأماكن البعيدة, لفعل النبي والصحابة ذلك, وسقاية الناس ماء زمزم عمل صالح, كما وصفه النبي لمَّا رأى بني عبد المطب يسقون الناس على زمزم, فقال لهم: ((اعملوا فإنكم على عمل صالح, فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم)) رواه البخاري, وتقديم المسافرين في السقاية أولى من جيران الحرم, وذلك عند الازدحام؛ لضعف ابن السبيل بالاغتراب, ولا بأس بالوضوء والاغتسال بماء زمزم, وصبه على سائر البدن تبركًا به.

وصلى بأركان الْمقام حجيجنا  وفي زمزم ماء طهور وردناه

وفيه الشفاء وفيه بلوغ مرادنا  لمـا نحن ننويه إذا شربنـاه

وبعد: أيها المسلمون، فهذه زمزم, وهذه بعض مآثرها ومنافعها وفضائلها, فانهلوا منها ما استطعتم, وأدركوا من رحيقها ما تمكنتم, فمذاق زمزم كمذاق الشهد المصفَّى, يحلو ويعلو كلما عاد المرء لتذوقه.

شفيت يـا زمزم داء السقيم   فأنت أصفى ما تعاطى الْحكيم

وكم رضيعٍ لك أشواقه إليك   بعد الشيـب مثـل الفطيـم

ثم صلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً