أما بعد: فيا عباد الله، نعم الله على الناس تترى، وآلاؤه لا تعد ولا تحصى، ما غابت نعمة إلا ظهر غيرها، ولا فقدت منة إلا أنعم على الناس مثلها أو خير منها.
لكن نعمة من هذه النعم لا يهنأ العيش بدونها، ولا يقر قرار عند فقدها، إنها النعمة التي يبحث عنها الكثير، ويخطب ودها الصغير والكبير، هي نعمة لا أجل منها ولا أعظم إلا نعمة الإسلام، أعرفتم تلكم النعمة يا عباد الله؟ إنها نعمة الأمن والأمان.
هذه النعمة امتن الله بها على قريش حين أعرضوا عن دين محمد فقال سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، وذكرهم بأحوال الذين فقدوها من حولهم فقال عز من قائل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ الآية، ثم جعلها لعظمها داعيًا لهم إلى الإيمان فقال جل ذكره: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
وحين خاطب المولى سبحانه صحابة نبيه ذكرهم أيضًا وامتن عليهم بنصره لهم وإيوائه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أيها المسلمون، إن استقرار المجتمع المسلم الذي يهنأ فيه بالطعام ويستسيغ الشراب ويكون نهاره معاشًا ونومه سباتا وليله لباسا لا يمكن أن يتحقق إلا تحت ظل الأمن، وقديمًا قيل: الأمن نصف العيش. إن مطلب الأمن يسبق مطلب الغذاء، فبغير الأمن لا يستساغ طعام ولا يهنأ بعيش ولا ينعم براحة، قيل لحكيم: أين تجد السرور؟ قال: في الأمن، فإني وجدت الخائف لا عيش له.
عباد الله، إن أول مطلب طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه هو أن يجعل هذا البلد آمنًا، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، وفي آية أخرى قدم عليه السلام في دعائه لربه نعمة الأمن على نعمة العيش والرزق فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.
أيها الناس، كم من البلاد حولكم عاقبهم الله بنزع الأمن والأمان من بلادهم، فعاش أهلها في خوف وذعر، في قلق واضطراب، لا يهنؤون بطعام، ولا يتلذذون بشراب، ولا ينعمون بنوم، الكل ينتظر حتفه بين لحظة وأخرى.
أيها المسلمون، إنّ مكانة الأمن كبيرة، وكان نبيّكم إذا دخل شهر جديد ورأى هلاله سأل الله أن يجعله شهر أمن وأمان، فيقول: ((اللّهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى)) أخرجه الترمذي، وفي الحديث الآخر يذكر الناس بهذه النعمة فيقول: ((من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) أخرجه الترمذي.
عباد الله، إذا تفيّأ المجتمع ظلال الأمن والأمان وجد لذة العبادة، وذاق طعم الطاعة، فبالأمن تعمر المساجد، وتقام الصلوات، وتحفظ الأعراض، وينشر الخير، وتطبق الشريعة، وإذا ضعف الأمن واختل تبدّل الحال، ولم يهنأ أحد براحة بال. باختلال الأمن تختل المعايش، وتهجر الديار، وتفارق الأوطان، تقتل أنفس بريئة، وييتم أطفال، ترمل نساء، ولن يدرك ذلك إلا من ذاق ويلات الحروب واصطلى بنيرانها.
أيها المسلمون، لقد أنعم الله على كثير من الأمم بنعمة الأمن، لكنهم لما كفروا بنعمة الله وأعرضوا عن شرع الله عاقبهم الله فبدّل أمنهم خوفًا، فلا تسل عما يحلّ بهم بعد ذلك، يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. إن دوام النعم وشكرها مقترنان، فكفر النعمة يعرضها للزوال، فالذنوب مزيلة للنعم، وبها تحل النقم، قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.
عباد الله، إن من الخطَأ قصر مفهوم الأمن على نطاق ضيق متمثل في مجرد حماية المجتمع من السرقة أو النهب أو القتل وأمثال ذلك، فمفهوم الأمن أعم من ذلكم وأجل، إنه يشمل التمسك بعقيدة التوحيد والبعد عن الشرك وموالاة الأعداء وتنحية شرع الباري جل شأنه عن واقع الحياة أو مزاحمة شرع الله بشرع غيره، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. الأمن بمفهومه الشامل يتمثل في حماية المجتمعات وحفظها من الوقوع في الشبهات والشهوات عبر دعاة التغريب وما يبث عبر الصحف والقنوات.
أيها المسلمون، إن الأمن على العقول لا يقل أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للأرواح والأموال لصوصًا فإن للعقول لصوصًا كذلك، ولصوص العقول أشد خطرًا وأنكى جرحًا من سائر اللصوص.
اللهم إنا نسألك أمنا سابغا وإيمانا صادقًا.
أقول ما تسمعون...
|