فيا عباد الله، كانت البشرية تعيش في ظلام دامس وليل بهيم، لعبت بعقولها الانحرافات والخرافات، حتى أكرم الله هذه البشرية وأنزل عليها القرآن؛ ليخرجها من الظلمات إلى النور، ومن الخضوع للأوثان والأصنام إلى الخضوع الكامل للواحد الديان.
إن المتطلع اليوم في واقع كثير من الناس وسط أجواء المتغيرات المتكاثرة والركام الهائل من المصائب والبلايا يلحظ بوضوح حاجة النفوس إلى تحصيل ما يثبت قلوبها ويطفئ ظمأها ويجلو صداها، وذلك كله موجود في كتاب الله عز وجل، ذلكم الكتاب الذي جعله الله سبحانه عمدة الملة وآية الرسالة، لا طريق إلى الله سواه، ولا سبيل إلى النجاة بغيره، إنه سلوة الطائعين ودليل السالكين ولذة قلوب المتقين، كيف لا وهو كلام رب العالمين المنزل على سيد المرسلين بلسان عربي مبين؟! تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
أيها المسلمون، إذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم، ثم انتهت تلك المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم، فإن الذي أوتيه محمد كان وسيظل معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين، ويراها المتأخرون كما يراها المتقدمون، يقول النبي : ((ما من الأنبياء نبي إلا وأعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) أخرجه مسلم.
القرآن ـ عباد لله ـ هو المصباح الذي لا ينطفئ نوره، والمنهاج الذي لا يضلّ ناهجه، والعزّ الذي لا يهزم أنصاره. أنزل الله القرآن في أمة تتباهى بالفصاحة والبيان، تتفاخر بالبلاغة وجزل الكلام، فتحداهم الله جميعًا إنسهم وجنهم، فقال سبحانه: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، بل بلغ بالتحدي إظهار عجزهم عن تأليف سورة من مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ.
لقد حاول الأعداء قديمًا وحديثًا العبث به والتشويش في صدقه، شككوا في تنزله، وطعنوا في جمعه وتدوينه، ونالوا من قراءته وحروفه، ثم رجعوا في النهاية خائبين، إذ أذعن لفصاحته بلغاؤهم، وانقاد لحكمته حكماؤهم، وانبهر بأسراره علماؤهم.
أرسلت قريش أحسن رجالاتها ليكلم النبي ، فجاء الوليد بن عتبة وكلم النبي كثيرًا وهو منصت، فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم، ورجع إلى أهله، واختفى عن قريش فترة، فلما جاء قريش قال بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟! قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، قالوا: سحرك ـ يا أبا الوليد ـ بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
أتى بكتـاب أعجـز الخلق لفظـه فكل بليـغ عذره صار أبكمـا
تحـدى أهـل البـلاغة كلـهـم فلم يفتحوا فيمـا يعارضه فمـا
حوى كل برهان علـى كل مطلب ويعرف هذا كل مِمن كان أفهما
أيها المسلمون، إنّ صلة الكثير من الناس بكتاب ربهم يكتنفها شيء من الهجران والعقوق، سواء في تلاوته أو في العمل به، والله سبحانه وتعالى لم ينزل كتابه ليتلى باللسان تلاوة مجردة عن التدبر والفهم، منفصلة عن العلم والعمل، ولا ليكتب على لوحات وملصقات تزين بها الجدران ومداخل البيوت ومجالسها، ولم ينزله سبحانه ليكتب في حجب وحرز وتمائم تعلّق على الأكتاف وفي الرقاب لتدفع بها العين ويرد بها البلاء، ما أنزل القرآن ليقرأ على الموتى والأضرحة أو في المناحات باسم العزاء، ما أنزل القرآن لتفتح بها الإذاعات والقنوات ثم يتلوه العزف والطب والغناء، أنزل الله القرآن ليقرأ وليتدبر وليتذكر به من يتذكر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
عبد الله، تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرّب إليه بشيء أحب من كلامه، وأبشر حين تمتثل أمر الله لنبيه ولأمته من بعده في قوله سبحانه على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ.
إنّ الله سبحانه امتدح من يتلون كتابه ووعدهم بالمزيد من فضله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ.
أيها الناس، لا تبخلوا بالأوقات على كتاب الله تعال،ى فهو خير لكم من حطام الدنيا التي يتنافس البعض عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟)) فقالوا: نعم، فقال : ((فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير من ثلاث خلفات عظام سمان)) أخرجه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اقرؤوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه، وكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: الَمِ حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون)) أخرجه الخطيب.
إخوة الإسلام، هل نسينا حين هجرنا كتاب الله أن الحسنة بعشر أمثالها؟! فكم سيكون تعداد الحروف في الصفحة الواحدة؟! وكم سيكون عدد الحسنات فيها؟! ألا إن فضل الله واسع، ولكن هل من ساع إلى الخير جهده؟! هل من مبكر إلى الصلوات الخمس لينعم بقسط من الحسنات؟! هل من مشمر إلى الجمعة مبكرًا ليقرأ ما تيسر من كتاب الله، وخاصة سورة الكهف التي يحظى قارئها بنور يسطع من تحت قدمه وبغفران الذنوب؟!
يا أهل القرآن، ها هي سير بعض سلفكم وحالهم مع القرآن: يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله). وها هو أبو حنيفة النعمان يصلي صلاة العشاء خلف الإمام فقرأ: إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يفكر، فقلت: أقول لا يشتغل قلبه بي، فلما خرجت أنزلت القنديل، ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم قد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرا، أجر النعمان عبدك من النار وما يقرب منها من السوء وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذنت فلما دخلت قال: تريد أن تأخذ القنديل؟ قلت: قد أذنت لصلاة الغداة، قال: اكتم عليّ ما رأيت، وركع ركعتي الفجر، وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل. يروى أن بعض فقهاء مصر دخلوا على الشافعي رحمه الله وهو في المسجد وبين يديه المصحف، فقال لهم الشافعي: شغلكم الفقه عن القرآن، وإني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي، فما أطبقه حتى الصبح.
عباد الله، إنه بقدر ما تكشف هذه النصوص عن قدر القرآن وقيمته وصرف الهمم له عند هؤلاء الأخيار فهي تكشف أيضًا عن جلدهم وطول مكثهم في تلاوته وتدبره، كيف لا والمشغول بالقرآن يعطى أفضل ما يعطى السائلون؟! أخرج الإمام الترمذي في جامعه في الحديث القدسي: ((يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)).
يا حامل القرآن إن تك هكذا فلك الهنا بفوز عقبى الدار
ومتى أضعت حدوده لن تنتفع بِحروفه وسكنت دار بوار
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|