.

اليوم م الموافق ‏09/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

وقفات مع انهيار سوق الأسهم

6124

الأسرة والمجتمع, فقه

البيوع, قضايا المجتمع

أحمد بن حسين الفقيهي

الرياض

3/2/1427

جامع الإحسان

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- مصيبة انهيار الأسهم. 2- مشروعية ابتغاء الرزق. 3- تكفل الله تعالى برزق عباده. 4- الذنوب أسباب المصائب. 5- تحري السلف الصالح للمكاسب الطيبة. 6- مفاسد أكل الحرام وسوء عاقبته. 7- لكل صنعة أهل. 8- دعوة للعلماء وولاة الأمر.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه في أنفسكم وأهليكم، اتقوه في أعمالكم وأموالكم، اتقوه فيما تأكلون وتدخرون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.

عباد الله، في الأسبوع المنصرم فجِعت بعض النفوس بمصاب جلل، تغيرت على إثره النفوس وتنكرت بسببه القلوب، آلام وأحزان، آهات وزفرات، أمراض وإغماءات، أفراح بيوت بسبب المصيبة انقلبت إلى أحزان، وطموحات أقوام صارت أحلام وآمال.

إنه ـ عباد الله ـ الانهيار لسوق الأسهم، ذلكم السوق الذي علق عليه الكثير آمالهم، ولأجله باع البعض أملاكهم ومنازلهم، لقد أصبح سوق الأسهم حديث الناس في الطرقات، وشغلهم الشاغل في المكاتب واللقاءات، حتى أضحت مبادئ السوق وثقافته متاحة للأطفال في المنازل جراء تسمر الآباء والأمهات أمام الشاشات وفي الصلات. إنه لهث حثيث وتنافس محموم لأخذ أكبر نصيب من الربح بأي طريق كانت الوسيلة، وما ذاك إلا مصداق لقول المصطفى : ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي في جامعه.

عباد الله، وحول هذا الحدث كلمات ووقفات أجملها فيما يلي:

أولاً: إن كسب الرزق وطلب العيش مأمور به شرعًا، ومندفعة إليه النفوس طبعًا، والشريعة لا تقف في وجه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لكنها تصحّح المسار، وتحثّ الناس على الاعتدال حتى في المال، فها هو النبي يستعيذ بالله من شر الغنى والفقر. رواه أبو داود والترمذي، وقال حاثًا على العمل والتكسب: ((ما أكل أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري.

إن الاستغناء عن الناس ـ عباد الله ـ بالكسب الحلال لهو شرف عال وعز رفيع، ومما يروى من حكم لقمان قوله: (يا بنيّ، استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته).

ولا شك أن المقصود من ذلك كله هو الكسب الطيب، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.

نعم المعين على المروءة للفتى    مال يصون عن التبذل نفسـه

لا شيء أنفع للفتى من ماله     يقضي حوائجه ويَجلب أنسـه

وإذا رمته يد الزمان بسهمه    غدت الدراهم دون ذلك ترسه

الوقفة الثانية: أن الله تكفل برزق الخلق عندما خلقهم، فلم يتركهم سبحانه هملا، ولم يدعهم جياعًا، بل قدر لهم مقاديرهم وكتب نفس رزقها، ولن تموت ـ يا عبد الله ـ حتى تستكمل الرزق الذي كتبه الله لك، قال في الحديث الصحيح: ((إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)).

لكن مع ذلك فإن من سنة الله في خلقه أن يوجد الفقراء والأغنياء، فتجد ذلك الغني الذي بسط له في رزقه وتوفرت له أسباب الترف ووسائل الثراء، وتجد أيضًا الذي قدر عليه في رزقه وعزت عليه أسباب كسبه، ولو ربح الناس كلهم فمن أين نجد الغني والفقير؟! وهل يعيش الأثرياء إلا على نكبات الفقراء وانهياراتهم؟! وها هم اليوم يغتنمون انهيار السوق في الاستحواذ على أسهم صغار المتداولين وشرائها منهم لينعموا بها غدًا.

ومع ذلك فهذا فضل الله سبحانه، فضّل بعض الناس على بعض، فأعطى هذا وبسط له الكثير، وأعطى ذاك أقل منه، وحرم الثالث فلم يعطه شيئًا، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.

لا تنظرن إلى ذوي المـال       المـؤثـل والـريـاش

فتظل موصـول النهـار       بِحسـرة قلق الفـراش

وانظر إلَى من كان دونك       أو نظيـرك في المعـاش

ثق ـ يا عبد الله ـ أن تقسيم الأرزاق بين الناس لا علاقة له بالحسب ولا النسب، ولا بالعقل ولا بالذكاء، ولا بالوجاهة ولا المكانة، ولا بالطاعة والعصيان، وإن كانت هذه كلها من الأسباب، لكنه سبحانه يوزع رزقه على عباده لحكمة يعلمها، فقد يعطي المجنون ويمنع العاقل، وقد يعطي الوضيع ويمنع الحسيب، فهو سبحانه لطيف بعباده يرزق من يشاء.

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا     هلكـن إذًا مِن جهلهن البهـائم

ولَم يجتمـع شرق وغرب لقـاصد      ولا المجد فِي كف امرئ والدراهم

الوقفة الثالثة عباد الله: لقد أخبر المولى سبحانه أن ما من مصيبة تصيب العبد إلا بسبب ما اقترفته يداه، قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. ولعل ما حلّ بالبعض من خسائر دافع لإعادة النظر في حال المرء مع ربه، وما مصادر الرزق التي يتكسب منها؟ فالبعض والعياذ بالله يعصي مولاه بترك فرائضه وارتكاب محارمه ثم يرجو منه التوفيق في إتمام صفقته أو ارتفاع سعر سهم، وأنى لرجل يحارب الله بالربا واختلاط الخبيث بالطيب أن يهنأ بعيش أو يستلذ برزق ومولاه ورازقه توعده بالمحاربة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ؟!

عباد الله، إن طلب الحلال من الرزق وتحرّيه أمر واجب، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟

انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام: أتدري ما هو؟ تكهّنت في الجاهلية لإنسان وما أحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كلّ شيء في بطنه، وفي رواية أنه قال: (لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني اعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء). وشرب عمر رضي الله عنه لبنًا فأعجبه فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. وها هي بعض الصالحات توصي زوجها وتقول: يا هذا، اتق الله في رزقنا؛ فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.

أولئك القوم يخرجون الحرام والمشتبه به من أجوافهم وقد دخل عليهم من غير علمهم، وخلف من بعدهم خلف يعمدون إلى الحرام من أسهم ومساهمات واكتتابات ليملؤوا به بطونهم وبطون أهليهم.

المال يذهب حله وحرامه       يوما ويبقـى بعده آثامـه

ليس التقي بِمتق لإلـهه        حتَّى يطيب طعامه وشرابه

عباد الله، إذا كان من عواقب أكل الحرام وعدم تحري الطيب من الخبيث الخسارة في الدنيا وذهاب المال الذي جمع من موارد الحرام، فها هنا ما هو أشد من خسارة المال، أرأيتم ذلك الرجل الذي ذكره النبي ، يطيل السفر، أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)).

فهذا الرجل استجمع من صفات الذلّ والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، حيث تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، تربت يداه، وشعث رأسه، واغبرّت قدماه، لكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من نوال مولاه، فحيل بين دعائه والقبول؛ بسبب أنه أكل من الحرام، واكتسب من حرام، ونبت لحمه من حرام، فردت يداه خائبتين.

قال : ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام))، زاد رزين: ((فإن ذلك لا تجاب لهم دعوة)).

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان غفارا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله له الدرجات العلى، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أولي النهى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: الوقفة الرابعة عباد الله: أن الله سبحانه خلق لكل صنعة أهلين، وعلى من أراد أن يقتحم غمار صنعة معيّنة أن يتتلمذ على أيدي كبار معلميها؛ حتى يتقنها ويعرف مكامن الربح والخسارة فيها، ولو كان كل الناس تجارَ أسهم مثلاً فمن للصناعة؟! ومن للزراعة؟! ومن للتجارات الأخرى؟! فهذه سنة الله في خلقه أن جعل بعضنا لبعض سخريا.

عباد الله، على من أغراه المال وجذبته الأرباح السريعة في ذلك السوق أن ينظر أين يضع قدمه قبل أن يغامر بالدخول في سوق مليء بالمخاطر وخاصّة لقليلي السيولة، وقليلي الخبرة والمعرفة، وقديمًا قالوا: لا تضع بيضك في سلة واحدة فيأتيه الهلاك جميعًا، وكذلك المال لا تضعه في سهم واحد أو تجارة واحدة، بل استشر في مواطن وضعه، واستخر، وتحرّ الحلال الطيب؛ حتى لا يذهب كله أو بعضه في أدنى هزة اقتصادية، وحينها يطول بك الألم والحزن، أو تبقى أسيرًا خلف الأغلال في السجن.

هي شيمة الأيام كفّ تبتني      مذ كانت الدنيا وكف تَهدم

ونرى تقلب هذه الدنيا بنا      وكأننـا فيها سكـارى نوَّم

ويقول الآخر حاثًا على القناعة في ميدان التجارة:

العـبـد حـر إن قنـع      والْحرّ عبـد إن طمـع

فاقـنـع و لا تطمع فلا        شيء يشين سوى الطمع

أخيرًا: عباد الله، حري بولاة الأمور وبالعلماء والعقلاء وبالمختصين في المعاملات المالية وأسواق الأسهم أن يكون لهم جهود ملموسة في حفظ هذه الضرورة من الضرورات الخمس، وذلك من خلال وضع الضوابط الشرعية والتنظيمات العادلة؛ لتكون سياجًا منيعًا يحول دون العبث بأموال الناس، ولأجل أن نقلل من الضحايا المتهوّرين والبسطاء المغامرين، وعليهم كذلك أن يحموا البلد من مصائب الربا وآثامه بإلزام البنوك بتحويل تعاملاتها إلى الوجهة الشرعية حتى ننعم بالحلال الطيب، وندفع عقوبة الله ومحاربته لنا نظير محاربتنا له بالربا.

قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ.

 

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً