ونحن في بداية شهر رمضان الكريم لا بد من توضيح بعض الأمور:
أولاً: الصيام عبادة وهو عبادة شعائرية، وعلة وجود الإنسان في الأرض أن يعبد الله، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
ثانيًا: لا تصح العبادة الشعائرية إلا بصحة العبادة التعاملية، كما أن هناك عبادة شعائرية كالصلاة والصيام والحج، فهناك عبادة تعاملية كالصدق والأمانة والعفة، والحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة وضوح الشمس أن العبادات الشعائرية لا تصحّ ولا تقبل إلا إذا صحّت العبادات التعاملية؛ لذلك قال رسول الله فيما يرويه عنه أبو هريرة: ((من لم يدع قول الزور والعمل به ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد، وقال: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) رواه ابن ماجه واللفظ له والنسائي وابن خزيمة في صحيحه.
ومعنى ذلك أن من معاني الصيام أنه يربي في الإنسان الإرادة على الجمع بين العبادة التعاملية والشعائرية، وبالتالي تقوية الإرادة على طاعة الله، لماذا؟ لأن الله تعالى في هذا الشهر الكريم منعك من أكل الحلال واللقاء الطيب، منعك مما هو مباح لك خارج الصيام، فأنت خضوعا لله وتنفيذا لأمره واستجابة له تدع الطعام والشراب وسائر المحظورات، فهل يعقل أن تدع الطعام الحلال ثم تكذب؟! هل يعقل أن تدع الطعام الحلال ثم تغتاب مسلما؟! هل يعقل أن تدع الطعام الحلال ثم توقع بين اثنين؟! هل يعقل أن تضع الطعام الحلال ثم تغش المسلمين في البيع أو الشراء أو ترتكب الحرام وأنت صائم؟! كأن الله وضعك في موقف صعب جدا؛ ها أنت قد تركت الطعام والشراب من أجلي وهو مباح لك خارج الصيام، فكيف تجترئ وأنت صائم على معصيتي؟! لذلك ـ وهذه الكلمة قد تكون قاسية ـ هذا الذي لا يدع المعاصي والآثام في شهر الصيام وهو صائم فصومه لا يرتقي إلى مستوى صوم الإنسان، هو صوم ما دون الإنسان، وحرمان فقط، جوع وعطش، ويخشى أن يكون مثل المنافق الذي شُبّه بالدابة حبسها أهلها ثم أطلقوها، فهي لا تدري لماذا حُبست ولماذا اطُلقت؛ لذا قال جبريل عليه السلام وأمَّن على ذلك رسولنا الكريم محمد: ((من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله)) صحيح الجامع الصغير (75) عن جابر بن سمرة. وقال أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((رغم انف من أدرك رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له)) صحيح الجامع (3510).
ثالثًا: الصيام عبادة الإخلاص، كيف؟ أكثر النظم الوضعية تحرم السرقة، فالذي لا يسرق لا تدري أهو خائف من الله عز وجل أم من القانون، أما الذي يصوم فهو حتمًا مخلص لله عز وجل، أنت في البيت والأبواب والنوافذ مغلقة، والوقت شديد الحر، ويوم الصوم طويل، والمياه في الثلاجة باردة، من منعك من أن تشرب الماء ولا أحد يراك؟! إنه الإخلاص لله عز وجل؛ لذا جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) صحيح الجامع الصغير (4328).
رابعًا: الصيام عبادة افتقار، الإنسان أحيانا يكون غنيًا وقويًا، وكل شيء أمامه جاهز لا يشعر بعبوديته لله، فيظن أنه على كل شيء قدير بخطأ منه، فإذا جاء شهر الصيام وامتنع عن الطعام والشراب وذاق مرارة الجوع وحرقة العطش يشهد أنه عبد لله، وأنه على مكانته وعلى حجمه المالي وعلى قوّته وعلى منصبه الرفيع مفتقر إلى كأس من الماء، فكأن الصيام عبودية الافتقار إلى الله، فأنت مفتقر إلى كأس من الماء تشربه، أنت مفتقر إلى لقمة طعام تملأ بها معدتك، أنت مفتقر في وجودك لا إلى ذاتك, ولكن إلى ما حولك؛ لذلك حينما أراد الله عز وجل أن يعبر عن بشرية الأنبياء وصفهم بأنهم يأكلون الطعام: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان: 20]. لمجرد أنك تأكل الطعام فأنت عبد لله، ولكن شتان بين أن تكون عبدَ شكرٍ وبين أن تكون عبدَ قَهر، فعبد الشكر عرف الله وأقبل عليه وأطاعه وخضع له, هذا عبد الشكر وجمعه عباد، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63]، أما عبد القهر فهو كل مخلوق ولو كان كافرًا، ولو كان ملحِدا، وهو عبد القهر، لأن حياته متوقفة على النَفَس والهواء، وعلى الطعام والشراب والماء، مفتقر إلى طرف آخر يكمل به نقصه.
خامسًا: الصيام جوع اختياري ومشاركة وجدانية، أنت حينما تصوم وتمتنع عن الطعام والشراب فهذا جوع اختياري، فهل تذكرت من يجوع جوعًا قسريًا دائمًا؟ إن من يعيش على اللحم والفواكه والخضروات دائمًا وأبدًا صباحًا ومساءً لا يدري أن هناك من يعيش الجوع الحارّ صباحًا ومساءً، فأراد الله أن يخبره أن هناك إخوة له ينامون على التراب يلتحفون السماء ولا يجدون كسرة الخبز، ولسان الحال يقول لهم: إن كنتم تجوعون شهرًا واحدًا فالناس غيركم يجوعون شهورًا؛ لذا قال رسولنا فيما رواه عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: ((من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) صحيح الترغيب والترهيب (1078)؛ لذلك حينما ترى أخًا لك محتاجًا فقيرًا ليس في بيته شيء، ألا يقتضي إسلامك أن تعطف عليه وتمده ببعض ما عندك؟! فصار الصيام عبادة فيها أيضا مشاركة وجدانية.
سادسًا: الصيام من أسباب استجابة الدعاء، لماذا جاءت هذه الآية بين آيات الصيام: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، وقال رسول الله : ((ثلاث دعوات لا ترد))، ومنها: ((ودعوة الصائم)) صحيح الجامع الصغير (3032).إذًا للصائم عند فطره دعوة لا ترد، وذلك لأن الصائم منكسر القلب ضعيف النفس.
فيا من جفّت شفته من الصيام وظمئت كبده من الظمأ وجاع بطنه، أكثِرْ من الدعاء، وكُنْ ملحاحا في الطلب، فقد وصف الله عباده الصالحين حيث قال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
سابعًا: شهر رمضان شهر التكفير عن الذنوب، المؤمن مذنب توّاب، وما طلب الله منا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، فشهر رمضان شهر التكفير عن الذنوب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) صحيح الترغيب والترهيب (992)، وقال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) صحيح الترغيب والترهيب (993)، ومعنى إيمانًا: أنه يؤمن بالله عز وجل، فلا يصح صيام الكافر، ومعنى احتسابًا: أنه يريد بصيامه وقيامه وجه الله عز وجل محتسبًا أجره عند الله تعالى.
ثامنًا: الصوم فيه تربية حضارية على الصبر، الإنسان يعاني من تحديات، يعاني من ضائقة، يعاني من مشكلات، يعاني من أعداء شرسين، يعاني من خطط ماكرة، كيف يستطيع الإنسان أن يصمد أمامها؟ هو محتاج إلى الصبر، والصبر مفتاح الفرج، والصبر قيمة حضارية كبيرة جدًا، أراد الله عن طريق هذا الشهر أن يعودك على الصبر، أحيانًا قد يقل الدخل، وقد تيأس بسبب ذلك، أو تمد يدك إلى الحرام، لكن الصيام يعودك على الصبر، فتصبر فتنجو من المهالك. أراد الله عز وجل أن يعودك في هذا الشهر على الصبر، قد تواجه مشقة، قد تواجه تحديا، قد تواجه فقرا، ولكن بالصبر تستطيع أن تواجه كل هذه التحديات، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186].
تاسعًا: رمضان شهر الفوائد الصحية، هذا الجسم بحاجة ماسة إلى شهر في العام كي ترتاح الأجهزة، وكي تقل نسب الدهون في الدم، فهو دورة وقائية علاجية، دورة وقائية عن معظم الأمراض، ودورة علاجية لبعض الأمراض في الصيام. ولكن من باب الأمانة، هذا الذي يصوم من أجل صحته فقط ما صام رمضان، فهذا شهر عبادة، تصوم لأن الله فرضه عليك، لكن حِكم الله عز وجل لا تعد ولا تحصى. هناك ضغط الدم ينخفض، ونسب الأملاح تنخفض، نسب الدهون تنخفض، الكولسترول ينخفض. فإذا قنّن إنسان طعامه شهرًا يشعر بنشاط لا يوصف، وكأن هذا الشهر إعادة سنوات إلى الوراء واقتراب من الشباب، وصدق من قال: (صوموا تصحوا)، ومع ذلك كله فالملاحظ والمؤسف جدًا هو أن الاستهلاك الغذائي لكثير من الناس يتضاعف في رمضان، فقد أصبح الشهر الكريم موسمًا للأكل وانطلاقًا لشهوة الطعام حتى صرنا نعاني من انتشار بعض الأمراض الخطيرة التي تنتج غالبا من عدم التحكم في البرنامج الغذائي كمرض السكر الذي ينتشر في مجتمعنا، فمرضى السكر في المملكة يتعدّون 24 في المائة من السكان، وهناك زيادة سنوية نسبتها 4 في المائة؛ مما نتج عنه أنه يحصل في العام الواحد أكثر من 13 ألف عملية بتر أعضاء في المملكة بسبب مرض السكري وبسبب العادات الغذائية في الأكل، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [الأعراف: 31]، وقال رسول الله : ((بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه)) صحيح الجامع الصغير (5674)، فأين الناس من هذه المعاني العظيمة؟!
حقًا إن البعد عن تعاليم الإسلام في كل المجالات يجعل الإنسان تائهًا في الدنيا والآخرة، فهل يفهم الناس ذلك؟!
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|