أما بعد :-
أيها الناس : اتقوا الله تعالى واحذروا المعاصي فإن لها أثرا سيئا على العاصي وعلى المكان والسكان، قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [الأعراف: 56] أي: لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي والظلم بعد إصلاحها بالتوحيد والعدل والطاعة وإرسال الرسل.
فالمعاصي تضر بالقلوب كضرر السموم في الأبدان . وهل ما في الدنيا والآخرة من شرور وعقوبات إلا وسببه الذنوب والمعاصي ، فما الذي أهلك الأمم الماضية الا الذنوب والمعاصي.
قال تعالى: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [العنكبوت: 40] .
والذنوب تتفاوت وتنقسم إلى كبائر وصغائر وتتفاوت مفاسدها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، قال الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله : ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة اقسام : ((مَلكِية، وشيطانية ، وسَبْعية ، وبهيمية )) لا يخرج عن ذلك .
فالذنوب الملكية : أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية ، كالعظمة والكبرياء والجبروت والقهر والعلو بغير الحق واستعباد الخلق ونحو ذلك ، ويدخل في هذا الشرك بالرب تبارك وتعالى ، وهذا القسم أعظم انواع الذنوب . ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وامره ، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه في ربوبيته وملكه وجعل نفسه له ندا . وهذا أعظم الذنوب عند الله ولا ينفع معه عمل .
وأما الشيطانية : فالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي والغش والغل والخداع والمكر والأمر بمعاصي الله وتحسينها ، والنهي عن طاعة الله وتهجينها ، والابتداع في دينه والدعوة إلى البدع والضلال ، وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة وإن كانت مفسدته دونه .
وأما السبعية :فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين.
وأما الذنوب البهيمية : فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج . ومنها يتولد الزنى والسرقة وأكل أموال اليتامى والبخل والشح والجبن والهلع والجزع وغير ذلك .
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية ومنه يدخلون سائر الاقسام.
عباد الله : لقد حذر النبي - - من المعاصي وعقوباتها عموما . وحذر من كبائر الذنوب خصوصا لأن خطرها أشد ، ففي الصحيح عنه – - أنه قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله . فقال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور)) وفي الصحيح أيضا عنه – - : ((اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : وما هن يارسول الله ؟ قال : الإشراك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ألا بالحق، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )). وفي الصحيح أيضا عنه – - أنه سئل : أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك ))، فأنزل الله تعالى تصديقها: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68] .
ولما كان الشرك أكبر الكبائر ، لأنه ضد التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله … حرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد . وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبي الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا ، ويقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة أو يقبل له فيها رجاء. ولما كان السحر من عمل الشيطان كما قال تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [البقرة : 102] .
لأن الساحر في الغالب يتعامل مع الشياطين يخضع لهم ويتقرب إليهم ؛ صار مفسدا للعقيدة ومفسدا للمجتمع ، لما يحدثه من الأضرار بإحداث التباغض بين المتحابين ، كما قال تعالى: فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه [البقرة : 102 ] ، ويحدث أمراضا وقتلا ، لما كان يشتمل على هذه الأضرار وغيرها صار قرينا للشرك ويليه في المرتبة ، وحكم الشارع بكفر السحرة وثبت الأمر بقتلهم عن جماعة من الصحابة لإراحة المجتمع من شرهم ، ونهى النبي – - عن الاتصال بهم والذهاب إليهم .
ويلي الشرك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وفي عبادته وتحليله وتحريمه من وصفه بما لم يصف به نفسه ، أو نفي ما وصف به نفسه أو إحداث عبادة لم يشرعها ، أو تحليل ما حرمه أو تحريم ما أحله . فإن ذلك كله ابتداع في دين الله وتنقص لجلال الله .
والبدعة أحب إلى إبليس من كبار الذنوب كما قال بعض السلف الصالح : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها وهي اتباع للهوى . قال إبليس – لعنه الله - : أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني ب لا إله إلا الله وبالاستغفار . فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الاهواء ، فهم يذنبون ولا يتوبون . لأنهم يَحَسبون أنهم يحسنون صنعا ، والمذنب ضرره على نفسه فقط . والمبتدع ضرره على الناس . وفتنة المبتدع في أصل الدين. وفتنة المذنب في الشهوة … والمبتدع يصد الناس عن الدين الصحيح إلى البدع المحدثة والدين الباطل .
ومن الكبائر الموبقة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقد قال الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [النساء : 93]، وقال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعاً [ المائدة : 32] .
وإنما صار قاتل النفس الواحدة ظلما وعدوانا كالقاتل للناس جميعا ،لأنه لما تجرأ على سفك الدم الحرام فإن من قتل نفسا بغير استحقاق بل لمجرد الفساد في الارض ، أو لأخذ مال المقتول ، فإنه يتجرأ على قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله ، فهو معاد للنوع الإنساني ، لأن الله جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، فإذا أتلف القاتل عضوا من ذلك الجسد فكانما أتلف سائر الجسد وآلم جميع أعضائه ،فمن آذى مؤمنا واحدا فقد آذى جميع المؤمنين ، وفي أذى جميع المؤمنين أذى لجميع الناس ،فإن الله إنما يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين هم بينهم ،لأن من قتل نفسا بغير حق فقد جرأ غيره على القتل ، وسن سنة سيئة لغيره من الاعتداء على الناس جميعا ، وقد قال النبي – - : ((لا تقتل نفس ظلما بغير حق إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها ، لأنه أول من سنّ القتل ))، وقتل النفس بغير حق يتفاوت إثمه وضرره بحسب مفسدته ، فقتل الانسان ولده الصغير الذي لا ذنب له خشية أن يطعم معه أو يشاركه في ماله من أعظم أنواع الظلم وأكبر الكبائر ، وكذا قتله لوالديه تجتمع فيه جريمة القتل وجريمة العقوق وجريمة قطيعة الرحم . وكذلك قتله لبقية قرابته فيه جريمة القتل وجريمة القطيعة ، وهكذا تتفاوت درجات القتل بحسب قبحه وسوء أثره ، ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي . ويليه من قتل إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط .
ومن الكبائر الموبقة جريمة الزنا ، فهو من أعظم المفاسد لأنه يترتب عليه فساد نظام العالم في حفظ الأنساب وحماية الفروج وصيانة الحرمات ، وهو يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، ويسبب حدوث الأمراض الخطيرة ، وكل من الزناة يفسد زوجة الآخر وأخته وبنته وأمه، وفي ذلك خراب العالم ، ولهذا كانت جريمة الزنا تلي جريمة القتل في الكبر ، ولهذا نهى الله عن قربه، وأخبر أنه فاحشة وساء سبيلا في قوله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً [ الاسراء : 32 ].
والنهي عن قربه أبلغ من النهي عن فعله ، لأنه نهي عنه وعن الوسائل المفضية إليه . كالنظر المحرم والخلوة بالمراة الأجنبية ، واختلاط المراة بالرجال ، وحرم التبرج والسفور وسفر المراة بدون محرم ، كل ذلك من أجل الابتعاد عن الزنا . وقال الإمام ابن القيم : ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم ،فإن المراة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس ، وإن حملت من الزنا ، فإما أن تقتل ولدها فتجمع بين الزنى والقتل ، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم . وأما زنى الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب وإفساد المراة المصونة وتعريضها للتلف والفساد . ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ؛ فكم في الزنا من استحلال محرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم ، ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس . ومن خاصيته أيضا أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته .
ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان ، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا . ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ( يعني أن الزاني يجب رجمه بالحجارة حتى يموت ) ولو بلغ الرجل أن امراته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت .
وخص سبحانه حد الزنى بثلاث خصائص من بين سائر الحدود ، أحدهما : القتل فيه باشنع القتلات ، والثاني : أنه نهى عباده أن تاخذهم بالزناة رأفة في دينه ، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم .
الثالث : أنه أمر سبحانه أن يقام حد الزنا بمشهد من المؤمنين ، فلا يكون في خلوة حيث لا يراه احد.
فاتقوا الله – عباد الله – واجتنبوا الذنوب والمعاصي ما ظهر منها وما بطن .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً [ الفرقان : 68-70 ] .
|