أما بعد: فإنَّ الوصية المبذولةَ لي ولكُم ـ عباد الله ـ هي تقوى الله سبحانه؛ إذ هي الأنسُ عند الوحشةِ والقوّةُ عند الضعفِ والبركةُ عند المحقِ والعِلم عند الجهل، وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282].
أيّها الناس، إنَّنا نعيشُ في زَمنٍ بَلغَت فيه الحضارةُ المادّية أَوجَهَا، بل بلغت مَبلغًا لم تبلُغه من قبل ولم يخطُر على بالِ البشر ممن قد غَبر؛ سَعةً في الكَسب ورَغدٌ في العيش ورفاهيةٌ في الوسائِل وتقدُّم ثائر في الضّروريات والحاجيات والتحسينيّات وتنوّعٌ في الأسباب الموصِلة إليها منقَطِع النظير، حَياةٌ عاجِية معاصِرة تُدهِش العقول وتبهرُ العيون، ما بين غَمضَة عينٍ وانتباهَتها ترى جديدًا في عالَم التطور المعيشيِّ والمادّي. بيدَ أنّ هذه الحضارةَ وهذا البركانَ الهائج في المسارات المادّية لم تجعَلِ المرء الذي يُعايِشها أسعَدَ من المرء في أزمانٍ سابقة، ولم تجعله أهنَأ من غيره، ولا أكثر أمنًا ولا أشرَح صدرًا مما مضى. وما ذلكم ـ عباد الله ـ إلا لغياب أمرٍ يُعدُّ غاية في الأهمية، ليس للحياةِ معنى بدونه، لا في كسبٍ ولا في علمٍ ولا في طعامٍ ولا في شَراب، بل ولا في الحياة برمتها، إذَن ما هو هذا الغائبُ الذي يستحقّ هذه الإشادَة ويستدعي مادّة الإطراء؟
إنّه ـ يا عباد الله ـ حلولُ البركة في ذلكم كله، البركة عنصرٌ أساسٌ في تمامِ وجود الإنسان، لا قوام لحياته بدونها؛ إذ مَا قيمة كسبٍ لا بركة فيه؟! وما قيمةُ وقتٍ مُحِقَتْ بركته؟! وما فائدة علمٍ وجودُه وعدَمُه على حدّ سواء؟! وما نتيجةُ طعامٍ وشرابٍ لا يسمِن ولا يغني من جوع، لا يطفئ ظمأً ولا يروى غليلا؟!
البركة ـ عباد الله ـ ليست في وفرةِ المال ولا سَطوة الجاه ولا كَثرة الولَد ولا في العلم المادي، إنها قيمةٌ معنويةٌ لا تُرى بالعَين المجرَّدة، ولا تُقاس بالكمّ، ولا تحويها الخزائِن، بل هي شُعورٌ إيجابيٌّ يشعُر به الإنسان بين جَوانحه، يخبرُ عنه صفاءُ نفسٍ وطمأنينةُ قلبٍ وانشراحُ صَدرٍ وقناعةٌ ظاهرة ورضا آمن، وإذا كان أمان المرء في سِربه وتحصيلُه قوتَ يومِه واستدامةُ صحّته وعافيته، إذا كان كلُّ ذلك ضالةَ كلِّ حيٍّ على هذه البسيطة وشجرةً يستظلّ بها الأحياء فإنّ البركة هي ماءُ هذه الشجرة وغذاؤُها وهواؤُها وضياؤُها.
نعَم يا عبادَ الله، إنّ الله جلّ جلاله قد أودَع هذه البركةَ بفضله خاصّيةً خارِجةً عن عَون المالِ ومَدَد الصحّة، بحيث يمكن أن تحيلَ الكوخَ الصغير إلى قصرٍ رَحب، وحين تُفقَد هذه البركةُ فسَيرى صاحبُ القصر أنَّ قصرَه كالقَفَص أو كالسجن الصغير. كل ذلك بسَبَب البركة وجودًا وعدما؛ فالقليل يكثُر بالبركة، والكثير يقلّ بفقدانها:
من تَمامِ العيشِ ما قرّتْ به عيْن ذي النِّعمة أثرَى أو أقلّ
وقليـلٌ أنت مسرورٌ بـه لك خيرٌ من كثيـرٍ في دغَل
البركةُ ـ عبادَ الله ـ هي الزيادة والنماء، وهي في الوَقت اتّساعه وإمكانُ استغلاله، وفي العُمُر طوله وحُسن العمل فيه، وفي العِلم الإحاطةُ به والعمَل بمقتضاه والدّعوة إليه، وهي في المال وَفرته معَ الكفاية منه، وفي الطعام إشباعُه، وفي الشراب إِرواؤه، وفي الصّحّة تمامها وسلامتُها من الأدواء. وقولوا عنها مثلَ ذلكم في شؤون الحياة كلِّها.
أيّها الناس، غالبية الناس وجمهورهم يعانون قلةَ البركةِ في معاشهم العامّ والخاصّ، يرَونَ أنهم في عالم الوفرة وتقريبِ البعيد وتسهيلِ الصّعب، غير أنّ الرضا عن الحال خِداج غيرُ تمام، مالٌ يأتي وطعامٌ يؤكل وذرية تولد لكنّها تذهب سَبَهلَلاً دونَ بركة، فهذا كثيرٌ راتبه ولا بركة فيه، وذاك كثيرٌ ولدُه ولا بركةَ فيهم، وآخر واسِعٌ علمه ولا بركة فيه ولا نفع، بل إنّ ذلكم قد تجاوزَ حدودَ الأفراد ليصلَ إلى المجتمع بمجموعه؛ ففي الحضارة المعاصِرة نرى العالَم الأوّل والثاني يُقرضان شعوبَ العالم الثالث أَموالا ثلثها ثمنٌ لسِلعٍ هي من صُنعهم، والثُلُث الآخَر أجورُ العاملين والمشرِفين من العالم المقرِض على هذه السلع، وبقيّةُ القرض للنّفقات المرتَقَبة مع ثبوت ضريبةِ القَرض بالنّسبة المئويّة للمبلَغ كلِّه، ثم تمضي السنون والمدين البائسُ يؤدّي أكثرَ مما اقترض والقرضُ باقٍ لم ينقُص، أمّا الدائنُ المقرِض فقد باع سِلعَه وأعمَل أفرادَه وبَقِي متمسِّكًا برقبةِ المدين يلوِّح له بالخَنقِ بين الحين والآخر. فأيّ بركةٍ تراها تلك المجتمعاتُ في واقعها وحالُها كالذي يشرب الماء المالح كلَّما شرِب منه كلّما ازداد عطشا؟!
عبادَ الله، لو رَجعنا قليلاً إلى الوراء لرأينا أمثلةً كثيرةً لحضورِ البركة وتواجُدِها في عهدِ النبيِّ وعهد أصحابه رضي الله عنهم وعُهود مَن بعدهم إلى زَمنٍ ليس عنا ببعيد، فقد كان النبيّ يجِد البركةَ في الرغيف والرَّغيفين، وربما شبِع هو وأصحابه مِن صَحفةٍ واحدة، وكان عثمانُ رضي الله عنه الذي جهَز جيشَ العُسرة قد بلغَت ثمرةُ نخله مائتي ألف أو تزيد حيث بارك الله له إنفاقَه في سبيله، وهذا الزبير بن العوام قد أوصَى ولدَه عبد الله أن يقضيَ دينَه الذي يبلغُ ألفَ ألفٍ ومائتي ألف يعني: مليونا ومائتي ألف، وقد قال لولده عبد الله: يا بنيّ، إن عجَزت عنه في شيءٍ فاستعن عليه مولاي، فوالله ما وقعتُ في كُربةٍ من دينٍ إلا قلت: يا مولى الزبير، اقضِ عنه دينَه، وكان لم يدَع دينارًا ولا دِرهمًا إلا أَرضَين له، ودارَت الأياّم وبارَك الله في أرضِ الزبير وبِيعَتَا، فبَلغت تركةُ الزبير خمسين ألفَ ألفٍ ومائتي ألف يعني: خمسين مليونًا ومائتي ألف، وكان له أربعُ نسوة، فصارَ نصيبُ كلّ واحدةٍ منهنّ ألفَ ألف ومائتي ألف يعني: مليونا ومائتي ألف، كمقدار الدَّين الذي عليه. هذه القصّة رواها البخاريّ في صحيحه. فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيفَ تكون البركة.
وقد جاء في مسند أحمد أنه وجِد في خزائن بني أميّة حِنطةٌ الحبّة بقَدر نواةِ التمر، وهي في صُرّةٍ مكتوب عليها: "هذا كان ينبُت في زمَن العدل". فلاحِظوا ـ يا رعاكم الله ـ كيف رُهِنت البركة في ذلك الزمن بالقِسط والعَدل وتركِ المظالم. ولقد قال أبو داود صاحبُ السنَن عن نفسه: "شَبَرت قِثَّاءَة بمصر ثلاثةَ عشر شِبرا، ورأيتُ أترجَّة على بَعير بقطعتين قُطعت وصُيِّرت على مثل عِدلَين"، وذكر المحدّث معمر بن راشد أنه رأى باليَمن عنقودَ عنبٍ حِملَ بغلٍ تام.
هذه بعض الشذرات ـ عباد الله ـ تفيد في أمرِ البركة عندَ المتقدِّمين على هذه الحضارة الهائِجة التي تشحّ فيها البركة لتجعلنا بين زَمَنين مُباركين: زمنٍ سابقٍ لنا ولاحقٍ بعدنا، كما في صحيح مسلم من قول النبي : ((لا تقوم الساعةُ حتى تعودَ جزيرة العرَب مروجًا وأنهارًا كما كانَت مروجًا وأنهارًا))، وكما في صحيح مسلم أيضًا ما يكونُ في آخِر الزمان من البركات التي تنزل على الناسِ حتى تستظلَّ الجماعةُ من الناس تحتَ قِشرة الرّمّانة لِعِظَم حجمها، وحتى إنَّ اللَّقحةَ مِنَ الإبل لتَكفِي الفِئامَ من الناس أي: الجماعةَ الكثيرة.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، والتَمِسوا لأنفسكم مواضعَ البركة في حياتِكم، وراجِعوا أنفسكم باحثين عن أسبابِ فُقدانها، وإنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنه كان غفّارًا.
|