عباد الله، كم في أقدار الناس من لحظات تختصر أعمارا، وأسطرٍ تختزل أسفارا، كم في عبر الأيام من مواعظ، وكم في تقلبات الدهور من بصائر، أفراح وأتراح، انتصارات وهزائم، حياة وموت، فقر وغنى، حرب وسلم، إيمان وكفران، والله فوق عباده يدبر أمورهم لا تخفى عليه خافية، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره)، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
عباد الله، إن ترابط أفراد المجتمع المسلم علامة خير ورشد، فالمسلم يفرح لفرح أخيه، ويسعد لسروره، ويتمنى الخير له، كما يشاركه في حزنه إن ألمت به مصيبة أو حلت به نازلة، فالمسلمون كالجسد الواحد، والجسد يتألم كله لألم أحد أعضائه، فضلاً عن فقدانه، ((المؤمنون كرجل واحد؛ إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) رواه مسلم.
ألا وإن مما يحمد لمجتمعنا حبّه للعلماء الراسخين والدعاة الصادقين، والأخذ بأقوالهم والاستنارة برأيهم، وإذا حل بأحد العلماء أو الدعاة أجله المقدر وانطوت صحيفته وانتقل عن هذه الدنيا فإن الجموع تحزن والعيون تدمع، وكأنها فقدت أبًا أو أمًا أو قريبًا لصيقًا، وقد قال أيوب رحمه الله: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي". فإذا كان هذا شعورهم عند موت الرجل العاديِّ من أهل السنة فكيف تكون حالهم عند موت أحد علماء السنة أو الدعاة إليها؟!
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تَموت ولا بعير
ولكن الرزيـة فقد فـذ يموت لموتـه خلق كثير
أيها المسلمون، إن رحيل العلماء والدعاة والمصلحين مصيبة شديدة الوقع على الأمة؛ لأن في ذهاب هؤلاء ذهابًا للعلم الذي يحملونه، وتوقفًا للدعوة التي ينشرونها، وانحسارًا لعمل الخير الذي يقومون به. ولما كان للحوادث المؤلمة آثار بليغة في النفوس كان لا بد من وقفات وتأملات نخفف من خلالها الحدث، وننشر البشرى، ونحث أنفسنا أولاً والناس جميعًا إلى ضرورة الاستفادة من حياة أولئك العظماء والاقتداء بهم.
إذَا أَعْجَبَتْك خِصَـالُ امْرِئٍ فَكُنْهُ تَكُنْ مِثْلَ مَا يُعْجِبُك
فَلَيْسَ عَلَى الجُودِ وَالمَكْرُمَاتِ إذَا جِئْتهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُك
عباد الله، إنكم في دارٍ ليست للبقاء، أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل، والموت قد يسبقه إلى العبد نذُرٌ وعلامات من مرض مهلك أو حرب مبيدة، وقد ينزل الموت بالعبد بغتة وهو على أتم حال وأحسنها، وإن من موت البغتة والفجأة ما يقع لفرد أو أسرة على إثر هدم أو غرق أو حريق أو نحوه، وحوادث السيارات في هذا العصر من أوسع الصور لموت الفجأة، حيث يخرج الرجل أو الأسرة من منزلهم بسيارتهم فيؤتى بهم إلى ثلاجة الموتى لا تسمع لهم حسًا ولا همسًا.
أيها المسلمون، إن موت الفجأة لا يُذم ولا يمدح، فقد يكون رحمة للمؤمن الطائع كما يكون عقوبة على الكافر والفاجر، فمن كان مستعدّا للموت كلّ حين بالإيمان والعمل الصالح فإن موت الفجأة رحمة في حقه وتخفيف عليه، ومن كان متثاقلا عن الطاعات مسارعا إلى المحرمات فإن موت الفجأة نقمة عليه وعذاب في حقه. والميت يبعث يوم القيامة على ما مات عليه.
وإن من عاجل البشرى لمن ابتلي بفقد حبيب أو قريب في حوادث الطائرات أو السيارات أن يبشّر ذووه بأن فقيدهم يرجى له أن يكون شهيدا ولا يجزم له بالشهادة، لعدم ثبوت نص بضابط من يموت شهيدا، وإنما عد النبي أصنافا ممن يموتون ميتة فيها شدة وألم؛ كالغريق والحريق والمطعون والمبطون والنفساء تموت بسبب ولدها وكذا صاحب الهدم، وإنما ترجى للمصاب في حوادث الطائرات أو السيارات الشهادة؛ لأن موته فيه شدة وألم تشابه أو تفوق ما ورد في النصوص؛ ولذا ألحقه بعض العلماء بصاحب الهدم، أي: الذي يتهدم عليه منزل فيموت، والله نسأل أن يقينا وإياكم الحوادث والمحن، وأن يحسن لنا ولكم العاقبة والختام.
أيها المسلمون، إن من إكرام الله تعالى وتوفيقه إلهامه العبد من عباده التزود من الطاعات وأعمال الخير قبل موته ووفاته، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله))، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل موته)) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني، وقال رسول الله : ((إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا عسله))، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملا صالحا قبل موته ثم يقبضه عليه)) رواه أحمد وصححه الألباني. قال العلماء: ومن معاني الحديث أن يفتح الله للعبد عملا صالحا بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله، فالعسل: طيب الثناء، وهو مأخوذ من العسل، فشبه ما رزقه الله تعالى من العمل الصالح الذي طاب به ذكره بين قومه بالعسل الذي يجعل في الطعام فيحلو به ويطيب، ومنه الحديث: ((إذا أراد الله بعبد خيرا عسله في الناس)) أي: طيب ثناءه فيهم.
قد مات قومٌ ومـا ماتت مَكارِمُهُمْ وعـاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
عباد الله، إن محبة الناس لا تشترى بالمال، ولا بالتدين الأجوف الذي لا ينطلق من مبادئ راسخة وقيم ثابتة، وإن الأضواء والشاشات والشهرة لن تجبر الناس على الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة للصلاة واتباع الجنازة ما لم يسخرها فاطر الأرض والسموات لذلك، فهي إذًا منحة إلهية ومنة ربانية تذكرنا بالحديث المتفق على صحته: ((إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض))، وبالحديث الآخر في الصحيح المروي عن أنس بن مالك قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي : ((وجبت))، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: ((وجبت))، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)).
وإن مما شهد له التاريخ أن علماء أهل السنة والدعاة إليها تكون جنائزهم عجبًا من العجب، ويكون ذلك اليوم يومًا مشهودًا، فكم حفظت لنا كتب التاريخ عن قصص نعجب لها حين نقرؤها عن بعض جنائز علماء هذه الأمة، ورحم الله الإمام أحمد عندما قال: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".
لَعَمْرُكَ ما وَارَى الترابُ فِعَالَهُ ولكنّه وَارَى ثيابًا وأَعْظُمًا
فللَّـه دَرُّه مـا أجمل صنـائعه! ومـا أجـلّ مكـارمَه!
ردّت صنـائعُهُ عليه حياتَهُ فكأنّه من نَشْرِها مَنْشُورُ
أيها المسلمون، إذا رأيتم العالم والداعية مع ما يبذله من وقت وجهد ومال لنشر الدين والدفاع عنه يكرمه الله تعالى بصلاح أسرته وأولاده فاعلموا أن هذا من عاجل النعيم ومن التوفيق الذي يهبه الله لمن يشاء من عباده، فصلاح الزوجة والأولاد نعمة عظيمة ومنة من الله جزيلة تسابق إلى طلبها وسؤال المولى إياها الأنبياء والصالحون، فعن صلاح الزوجة يقول سبحانه في معرض الثناء على عباد الله الصالحين أن من دعائهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]. وأما سؤال الله الذرية الصالحة فقد أوضح القرآن وأفصح عن طلب أنبياء الله المكرمين أن يرزقهم الأبناء الصالحين الذين يكونون القدوة والأسوة لمن بعدهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يسأل ربه الذرية الصالحة قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّٰلِحِينِ [الصافات: 100]، وهذا زكريا عليه السلام يناجي ربه ويسأله الولد ليكون وارثًا للنبوة من بعده قائلاً: فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبّ رَضِيًّا [مريم: 5، 6]. وقبل ذلك ذكر سبحانه عن الأبوين عليهما السلام أنهما قالا: لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَـٰلِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ [الأعراف: 189]. فدل ذلك كله على أن هبة الولد الصالح من أجلِّ النعم وأسبغ ألوان الكرم، كيف لا وابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له؟!
عباد الله، لما كان صلاح الزوجة والأولاد مع ما يبذله العبد في سبيل الحصول عليها منة إلهية ومنحة ربانية يوفق الله لها من يشاء لحكمة كان الموفق والله من يكرمه الله وينعم عليه بصلاح زوجه وولده، وإذا رأينا من عباد الله مع كثرة الصوارف والملهيات من أكرمه الله وأسرته بحفظ كتابه وتناوبت أسرته الخير ما بين حافظ لكتاب الله وسنة رسوله وما بين مشرف ومرب لحفظة كتاب الله وما بين مبلغ وشارح لسنة رسول الله ثم يجمع الله لتلك الأسرة فعال الخير التي اعتادوها فيؤدّونها قبل رحيلهم من الدنيا، إذا رأينا ذلك علمنا مقدار التوفيق الرباني والمنحة الإلهية التي استحقّها ذلك العبد وأسرته، وما ذاك إلا بخبيئة من عمل صالح قدموه وبصدق وإخلاص لله تعالى التزموه، هكذا نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا، فالمعول عليه في صلاح الأسرة والأولاد بعد عمل الأسباب هو الله جل جلاله، فلا صلاح لهم إلا بالله، ولا يهدي قلوبهم أحدٌ سواه، وإلا فكم وكم نعرف من المربين النجباء ومن الصالحين الفضلاء ممن بذلوا وقدموا لصلاح أسرهم وأبنائهم الغالي والنفيس لكنهم لم يكتب لهم ذلك، وعزاؤهم في ذلك نوح عليه السلام الذي مكث في دعوة أهله وقومه ألف سنة إلا خمسين عاما ثم ماذا؟ قال تعالى عن زوجه: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ [التَّحريم: 10]، وقال تعالى عن ابنه: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود: 46].
ولما كان الأمر كذلك ـ أيها المسلمون ـ كان دأبُ الأنبياء والصالحين الابتهال والتضرُّع إلى الله بأن يصلحَ أولادَهم ويهدي ذرياتهم، والدعاءُ أثرُه لا يخفى وأهمّيّته لا تُنسى، ودُعاء الوالدين للأبناءِ مُستجاب، فادعوا الله معاشر الأولياء، وانطرحوا بين يدي الله تعالى، وسلوه بصدق وإخلاص كما دعا الأنبياء والمرسلون من قبلكم.
عباد الله، إن حث الإسلام على طلب الأولاد وتكثيرهم ليس مقصورًا على الذكور منهم، بل ذلك عام يشمل الذكور والإناث، وإن النفور والتضايق من الإناث صفة من صفات الجاهلية واعتراض على حكم الله تعالى وقضائه، فإن الله عز وجل أدرى بخلقه وأعلم بما يصلح أو يفسد أحوالهم، والمرء لا يدري في أي حالٍ تكون السعادة أو الشقاء، ولربما فتح الله له من أبواب الرزق وسبل الخير ما لا يخطر بباله حين تولد له بنت، ولعل مغفرة الله ورضوانه لا ينالها المرء إلا بسبب البنات قال : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار)) رواه البخاري ومسلم، قال القرطبي رحمه الله: "قوله: ((بشيءٍ من البنات)) يفيد بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدةٍ من البنات، فأما إذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر من النار، وهو السبق مع رسول الله إلى الجنة كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ((من عال جاريتين ـ أي: بنتين ـ حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه عليه الصلاة والسلام. رواه مسلم.
فهنيئًا لك ـ أبَا البناتِ ـ بهذا الشرف من رسول الله، كيف لا وأنتَ بإحسانِ تربيَتِهنّ تعِدّ شَعبًا وتبني مجدًا، فعن عقبةَ بنِ عامر قال: قال رسول الله: ((مَن كان لَه ثلاثُ بناتٍ فصَبَر عليهنّ وأطعَمَهنّ وسقاهنّ وكساهنّ من جِدتِه كُنّ له حجابًا من النار يومَ القيامة)) رواه أحمد، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: ((من كُنّ له ثلاثُ بنات يؤوِيهن ويرحمهنّ ويكفلهنّ وجبت له الجنّة البتة))، قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانتا اثنتين؟ قال: ((وإن كانتا اثنتين))، قال: فرأى بعضُ القومِ أن لو قال له: واحدة لقال: واحدة، وكفى بذلك فضلاً وفخرًا وأجرًا.
فإنْ يُكَ أَفْنَتْهُ الليالي فأوشكتْ فإنَّ له ذِكْرًا سيُفْنِي الليالِيَ
|