.

اليوم م الموافق ‏10/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

عبرات المقلتين في وفاة ابن جبرين

6086

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

العلم الشرعي, تراجم

عبد العزيز بن محمد القنام

وادي الدواسر

24/7/1430

جامع النويعمة القديم

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- حفظ الله تعالى لهذا الدين. 2- كل من عليها فان. 3- الرزية بفقد العلماء الربانيين. 4- فضل العلماء ومنزلتهم في الأمة. 5- موت العلامة الشيخ ابن جبرين. 6- جهود الشيخ المباركة وجهاده العظيم. 7- فضل حبّ العلماء وتعظيمهم. 8- دعاء للشيخ.

الخطبة الأولى

أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فإنها أمانٌ عند البلايا، وذُخْرٌ عند الرزايا، وعصمة من الدنايا، فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنّكم بالله الغَرُور، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].

أيها المسلمون، حفظ الدين أعظم مقاصد هذه الشريعة الغراء، وإن من أعظم أسباب حفظ الدين حفظه بالرجال المخلصين والعلماء العاملين، فوجودهم في الأمة حفظ لدينها، وصون لعزتها وكرامتها، وذود عن حياضها، فإنهم الحصن الحصين والسياج المتين الذي يحول بين هذا الدين وأعدائه المتربصين.

وإن لله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة والقدرة النافذة في كونه وخلقه، وإن مما كتبه الله جلَّ وعلا على خلقه الموت والفناء، يقول سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، ويقول عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34]، ويقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 57]، ويقول جلَّ وعلا: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30، 31].

وإن أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعًا وأشده على الأمة لوعة وأثرًا فقد العلماء الربانين والأئمة المصلحين؛ ذلكم ـ يا عباد الله ـ لأن للعلماء مكانة عظمى ومنزلة كبرى، فهم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل والأمناء على ميراث النبوة، هم للناس شموسٌ ساطعة وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دجاها وأنوار هداها، بهم حفظ الدين وبه حفظوا، وبهم رفعت منارات الملة وبها رُفِعُوا، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويهدون به من ضل إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، وما عزت الأمم وبلغت سامق القمم وأشيدت صروح الحضارات وقامت الأمجاد وتحققت الانتصارات بعد الله إلا بهم، فهم أهل خشية الله، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، وهم مادة حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وقوت الضمائر، وزاد القرائح، ومهما صيغت النعوت والمدائح في فضائلهم فلن توفيهم حقهم.

العالم للأمة بدرها الساري، وسلسالها الجاري، لا سيما أئمة الدين وعلماء الشريعة؛ ولذلك كان فقدهم من أعظم الرزايا، والبلية بموتهم من أعظم البلايا، وأنَّى للمدلجين في دياجير الظلمات أن يهتدوا إذا انطمست النجوم المضيئة. صح عند أحمد وغيره من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنما مثل العلماء كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)). يقول الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله: "فما ظنكم بطريقٍ فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت فئامٌ من الناس لا بُدَّ لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ أطفئت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟! فهكذا العلماء في الناس".

وحسبكم ـ يا عباد الله ـ في بيان فداحة هذا الخطب وعظيم مقدار هذه النازلة قول المصطفى في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)).

ويُوضح ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تظهر الفتن، ويكثر الهرج، ويقبض العلم))، فسمعه عمر فأثره عن النبي فقال: (إن قبض العلم ليس شيئًا يُنتزع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء). ولقد أخبر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد: 41] قال: (بموت علمائها وفقهائها)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله)، وقال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار"، وقيل لسعيد بن جبير رحمه الله: ما علامة الساعة وهلاك الناس؟ قال: "إذا ذهب علماؤهم"، ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه "، وقال رضي الله عنه: "لا يزال عالم يموت وأثر للحق يدرس حتى يكثر أهل الجهل، ويذهب أهل العلم، فيعمل الناس بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل"، وفي الأثر عن علي رضي الله عنه قال: (إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه)،. وقال رجل لابن سيرين رحمه الله: إني رأيت الليلة أن طائرًا نزل من السماء على ياسمينة، فنتف منها، ثم طار حتى دخل السماء، فقال ابن سيرين رحمه الله: "هذا قبض العلماء"، فلم تمض تلك السنة حتى مات الحسن وابن سيرين ومكحول وستة من العلماء بالآفاق.

وقد كان السلف رحمهم الله يأسون أشد الأسى لفقد واحدٍ منهم، يقول أيوب رحمه الله: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي"، وقال أيوب: "إن الذين يتمنون موت أهل السنة يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" أخرجه اللالكائي.

وقد رأينا شيئًا مما ذكر في واقعنا المعاصر في هذه الآونة الأخيرة بفقد كوكبة من علمائها وفضلائها، ووفاة نخبة من فقهائها ونبلائها، حتى رُزئت بفقد آخر في انفراطٍ لعقد متلألئ وضاء، وتناثر لحباته المتناسقة، وبموت هؤلاء الجهابذة تُطوى صفحات لامعة وسجلات ناصعة من خصال الخير المتكاثرة. إنهم نماذج شامخة وأطواد راسخة في العلم والتقوى، وأعلام بارزة في السنة والفقه والفتوى، فضائلهم لا تُجارى، ومناقبهم لا تُبارى، ثلمتهم لا تسد، والمصيبة بفقدهم لا تُحدّ، والفجيعة بموتهم نازلة لا تنسى، وفاجعة لا تمحى، والخطب بفقدهم جلل، والخسارة فادحة، ومهما كانت الألفاظ مكلومة والجمل مهمومة والأحرف ولهى والعبارات ثكلى فلن تستطيع التعبير ولا دقة التصوير، فليست الرزية على الأمة بفقد مال أو بموت شاة أو بعير، كلاّ ثم كلاّ، ولكن الرزية أن يفقد عالم يموت بموته جمعٌ غفير وبشر كثير، فموت العالم ليس موت شخص واحد، ولكنه بنيان قوم يتهدم، وحضارة أمة تتهاوى.

فجبر الله مصاب المسلمين في علمائهم، وجعل في الخلف منهم عوضًا عن السلف، والخير في هذه الأمة باقٍ إلى قيام الساعة، والله وحده هو المسؤول أن يلهمنا رشدنا، وأن يغفر لمن مات من علمائنا، وأن يرفع في عليين منازلهم، وأن يحسن في الدارين مثوبتهم، ويجزل لهم أجرهم، ويحفظ أثرهم وآثارهم، ويرفع درجاتهم في المهديين، وأن يخلف على الأمة الإسلامية خيرًا، وأن يوفق الأحياء لبيان الحق والدعوة إليه، وأن يرزقهم التسديد والتأييد، ويكتب لهم القبول ودوام النفع، ويحفظها من شرور الغير وهول الفواجع، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، والحمد لله على قضائه وقدره، وهو وحده المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

أيها المسلمون، إن موت العلماء رزية عظيمة ومصيبة جسيمة.

فحسبـك مثلهم يبكـى عليهـم       وباقي النـاس تخفيـف ورحمة

إذا ما مـات ذو علم وفضل فقد        ثلمـت مـن الإسلام ثلمـة

أيها الإخوة المؤمنون، لقد نزل بالأمة خطب جلل وأمر عظيم، لقد فجع المسلمون بنبأ وفاة فقيد الأمة والعالم أجمع، سماحة الشيخ العلامة الفهامة الحبر البحر عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، الذي وافاه الأجل المحتوم والقدر المحكوم ظهيرة الاثنين الموافق للعشرين من شهر رجب لعام ألف وأربعمائة وثلاثين للهجرة بعد معاناة طويلة مع المرض، لتصعد روحه الطاهرة الزكية إلى خالقها وبارئها وصانعها وموجدها، فموته أبكى الكثير من الناس، وغشيتهم الدهشة والذهول، وتسربلوا بثوب الحزن والأسى؛ لفقد عالم جليل فقيه، عابد مجاهد صابر زاهد ورع، اجتمعت القلوب على حبه، وحمل على عاتقه لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، لقد قضى الله قضاءه بالحق، فألحق بالرفيق الأعلى، يرحمه الله، وجاد على قبره بمزون المغفرة، ولا نقول إلا ما يقوله الصابرون المحتسبون: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ولولا أنه أمرٌ حق ووعدُ صدق وأن آخرنا لاحقٌ بأولنا لحزِنَّا على شيخنا حزنًا غيرَ هذا، ولكن يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراق شيخنا لمحزنون.

وإن الحُزْن على موت شيخ الأمة وأحد علمائها عالمها ابن جبرين لا يمكن وصفه، لكن عزاءنا في دعوات صادقة نتوجه بها إلى الرب سبحانه وتعالى بأن يرحم الشيخ وأن يبارك في عقبه، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيرا، وأن يغفر له ويجمعنا به في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأعظم الله أجركم به، وأحسن عزاءكم، وجبر الله مصيبتكم، وجعلنا وإياكم من الصابرين، وألهمنا وأهله وأبناءه وخاصته وطلابه الصبر على هذه المصيبة، قائلين مرددين: اللهم آجِرْنا في مصيبتنا، واخلفنا خيرًا منها، وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب.

أيها المسلمون، لقد رحل الشيخ ابن جبرين عن هذه الدنيا بعدما ملأها علما، وبعد حياة حافلة بالعلم والعمل والدعوة والاحتساب، وبعد أن عمر مساجد المملكة بدروسه العظيمة ومحاضراته القيمة، وبعد أن قُرِئت عليه المتون المتعددة والفنون المتنوعة، فشرحها شرح العالم البصير والمطلع الخبير، فأمتع النفوس، وشرح الصدور، وملأ القلوب والعقول بفوائده النفيسة ودرره الشيقة وتعليقاته الفذة؛ حيث تتلمذ على يديه وتخرج من دروسه علماء وفقهاء وطلاب علم من شتى إنحاء العالم. وكان يرحمه الله تعالى يُقدم (16) درسًا في الأسبوع، يشرحُ فيها (42) كتابًا، واستمر أحد دروسهِ (28) عامًا، فلله ما أعظمها من حياةٍ بذلت واحتسبت.

فالشيخ يرحمه الله عَلَمٌ فذ، وفقيهٌ فحل، وداعية نَيِّر، وصاحب قلب طهور ونفس راضية وعلم غزير وإيمان وتقوى، نحسبه كذلك والله حسيبه، ونُحِبُّه في الله، فمن رأى الشيخ أو عرفه أحبَّهُ، وأحبّ تواضُعَه وتقواه وزهده وإعراضه عن الدنيا ونُكْرَانه لذاته، والشيخ ابن جبرين من أشهر المفتين في العصر الحديث، وهو عضو إفتاء سابق بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، وكان يجيب على أسئلة المواطنين عبر وسائل الإعلام المختلفة.

وللشيخ ما يزيد على ستين مؤلفا، من أهمها في مجال الفتوى: "فتاوى الزكاة"، و"فتاوى رمضانية"، و"فتاوى في التوحيد"، و"فتاوى في الطهارة"، و"الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية التربوية"، و"الفتاوى الجبرينية"، و"الفتاوى النسائية".

وكان يرحمه الله شجًى في حلوق أهل البدع والخرافات، وسيفًا مسلطًا على رؤوس الزنادقة والملاحدة، فكثرت شكاياتهم، وضجت منتدياتهم، فكادوا المكائد، وحاكوا المؤامرات في محاولة لثني الشيخ عن منهجه القويم وصراطه المستقيم، فما وجدوا إلا خيبة وخزيا، وحفظ الله الشيخ حتى استوفى أجله، من دون أن يبدل أو يغير أو ينتكس على عقبيه.

وكان الشيخ يرحمه الله أحد أبرز العلماء الذين دعوا إلى نصرة غزة، وانتقد مَن تخاذل عنها خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، وكانت آخر مواقفه إصداره بيانا مع (54) عالما سعوديا آخرين في اختتام مؤتمر الفتوى وضوابطها، تضمن تحريم أي مبادرة سلام تقول بحق اليهود في أرض فلسطين، أو تنص على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

عباد الله، إن محبة العلماء عبادة؛ لما يحملونه من كلام الله تعالى وكلام نبيه، وقد قال النبي : ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه)) حديث حسن رواه أبو داود. وللعلماء في الدين منزلة لا تخفى، فهم الذين رفعهم الله فقال: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11]. فقد تمكنت محبة الشيخ في قلوب الجميع، وهذه منحة إلهية تذكرنا بالحديث المتفق على صحته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ‏‏((‏إذا أحب الله العبد نادى جبريل‏: إن الله تعالى يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء‏: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض‏))، ‏فمحبة الناس لا تشترى بالمال، ولا بالتزين الأجوف الذي لا ينطلق من مبادئ راسخة وقيم ثابتة.

ألا وإن مما يحمد لمجتمعنا المسلم حَبه للعلماء الراسخين والدعاة الصادقين، والصدور عن فتياهم، والأخذ بأقوالهم الموافقة للكتاب والسنة، فما تنزل بالمسلمين نازلة إلا ويسارع الكثيرون إلى سؤال العلماء والاستنارة برأيهم. أما إن حل بأحد العلماء أجله المقدر وانطوت صحيفته وانتقل عن هذه الدنيا فإن الجموع تحزن والعيون تدمع، وكأنها فقدت أبًا أو أمًا أو قريبًا لصيقًا، ومما يؤكد هذا ما لمسه الجميع من الحزن الذي حل بهذه الأمة بفقد العلماء يرحمهم الله، وكأن الناس ولا يزالون يبكون العلماء الربانيين، ومازال الألم بفقد مشايخنا موجعًا وقد أفضوا إلى ربهم، وهو سبحانه أعلم بعباده وما قدموه في سبيل دينه، ورحمة الله واسعة، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ؛ ولذا كان فقد العالم مصيبة في المجتمع وخسارة عظيمة للأمة التي تعرف قيمتهم وتدرك أهميتهم وتعلم ما يترتب على فقدهم، قال الحسن: "موت العالم ثلمه في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".

وحق للأمة أن تحزن لفقدهم؛ لأن بذلك فتحًا لثلمة في جدار الإسلام والمسلمين وضرًا للديار ونقصًا في الأرض، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد: 41]، قال ابن عباس في رواية: (خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها).

فيا عباد الله، إن الحاجة الآن ماسة إلى أخذ العبرة من سيرة العلماء والبحث في سر هذا الحب الذي ملأ القلوب وعطر الأفواه، مما تكنه جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبقاتها وتباعد أقطارها لعلماء الدين والملة، فما إن يُتوفى أحد العلماء أو الصالحين إلا وتجد الناس يتراكضون لحضور جنازته والدعاء له. وإن ما يجعل العاقل يتعجب أشد العجب كثرة المصلين وشهود الجنازة، وإن المسلم حينما يحضر جنازة أحد العلماء أو الصالحين ويشاهد هذه الجموع الغفيرة ليتذكر المقولة الخالدة لإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل حينما قال قولته المشهورة ردا على أهل البدع فقال: "بيننا وبينهم الجنائز"، وهذا والله لا يكون إلا ببركة الأعمال التي لا يطلع عليها إلا علاّم الغيوب، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9].

أيها الإخوة المؤمنون، ولئن كان الموت غيّب جسد الشيخ عبد الله بن جبرين فإن ذكره لا يغيب، ومن يتابع صفحات المواقع الإلكترونية ويلحظ أعداد المترحمين والمودعين للشيخ في كل موقع ـ شرعي أو إخباري أو ما سوى ذلك ـ يدرك كم يبقى الذكر الحسن في العالمين، وما أحرانا أن نتعظ ونعتبر، وأن يعرف كل واحد منا دوره ومسؤوليته نحو دين الله تعالى. أما الشيخ فقد أفضى إلى ربه، ولا ينفعه منا الآن إلا الدعاء له، وما خلفه من الولد الصالح والصدقة الجارية.

يا رب فاجمعنـا معـا ونبينا    في جنـة تثني عيـون الحسَّـد

في جنة الفردوس فاكتبها لنا    يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله العظيم في قدره، العزيز في قهره، العليم بحال العبد في سِرِّه وجهرِهِ، أحمدُهُ على القدر خيره وشره، وأشكره على القضاء حلوه ومُرِّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فضمن له نصره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم وترسم خطاهم، فلم يتجاوزوا نهيه واتبعوا أمره.

أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته في الظاهر والباطن، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم.

أيها المسلمون، وإن مما يعزي نفوس أهل الإسلام في فقد علمائهم والأسى على فراقهم أن الله سبحانه بفضله ورحمته قد حفظ على هذه الأمة دينها، وحفظ لها كتابها، فالفضل الإلهي والفيض الرباني ليس مقصورًا على بعض العباد دون بعض، ولا محصورًا في زمن دون زمن، فلا يخلو زمن وعصر من علماء يقيمهم في كل فترة من الزمن أئمة عدولاً من كل خلف، أمناء مخلصين، علماء مصلحين، بصراء ناصحين، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، يدعون إلى الهدى، ويذبون عن الحمى، ويصبرون على الأذى. فيجب أن لا نفقد الأمل بالله عز وجل، فالذي أخرج لنا العالم الفلاني سيخرج لنا مثله أو أفضل منه، وما ذلك على الله بعزيز، توفي الإمام أحمد فقيّض الله لهذه الأمة شيخ الإسلام، وتوفي شيخ الإسلام فقيّض الله للأمة أمثال ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، توفي الشيخ محمد بن إبراهيم فقيض الله الشيخ عبد الله بن حميد، وتوفي ابن حميد فقيض الله ابن باز وابن عثيمين وفلان وفلان، فنسأل الله أن يتغمَّد أئمَّتنا العلماء برحمته، وأن يُلحقهم بالرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن لا يَفتننا بعدهم، ولا يَحرمنا أجرهم.

فهذه الأمة أمة ولود، والخير باق فيها إلى يوم القيامة، أمة الغيث لا يُدرى خيره أوله أم آخره، ولن نكون نحن أغير على الدين والملة من الله عز وجل، فهذا دينه، وهذه شريعته، فليس حفظ دين الله مقصورًا على حفظه في بطون الصحف والكتب، ولكنه بإيجاد من يبين للناس في كل وقت وعند كل حاجة، فالله سبحانه له المنة والفضل، يتفضل على الخلف كما تفضل على السلف.

وعزاؤنا في الطلاب الذين تركهم والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل، وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه، فهو وإن رحل فإن علمه باقٍ وموجود فينا، ونحن مسؤولون عن نشره وتبليغه، ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه.

فأقبلوا ـ أيها المؤمنون ـ على العلوم النافعة، خذوا العلم عن الأكابر، واجتهدوا في ضبطه وحفظه، ووفروا أوقاتكم عليه، واصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون. وقبل ذلك وبعده اجعلوا من علمكم دافعا لكم إلى العمل بهذا العلم والإخلاص فيه لله تعالى.

اللهم تغمد شيخنا عندك برحمتك يا أرحم الراحمين، وارفع منزلته في أعلى عليين، واخلف في عقبه في الغابرين، واخلف على الإسلام وأهله بخير يا رب العالمين. اللهم إنه صبر على البلاء والمرض فلم يجزع فامنحه درجة الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب، اللهم اجبر مصابنا، اللهم اجبر كسرنا، وصبرنا على مصابنا، اللهم اجعلنا عاملين بكتابك وسنة نبيك ، واجعلنا رجاعين لأهل العلم، واجعلنا من أهل العلم، واجعلنا أوفياء لأهل العلم، واجعلنا من الذين ينشرون العلم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تعلي للشيخ درجته في الجنة، وأن تلحقه بمنازل الأبرار والشهداء والأنبياء، وأن تجعله ممن يلتقي بهم يا رب العالمين، واجمعنا وإياه في دار كرامتك ومستقر رحمتك إنك على كل شيء قدير...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً